الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ***
قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، الدَّرَجَةُ الْأُولَى: فَنَاءُ الْمَعْرِفَةِ فِي الْمَعْرُوفِ مِنْ دَرَجَاتِ الْفَنَاءِ، وَهُوَ الْفَنَاءُ عِلْمًا، وَفَنَاءُ الْعِيَانِ فِي الْمُعَايَنِ، وَهُوَ الْفَنَاءُ جَحْدًا، وَفَنَاءُ الطَّلَبِ فِي الْوُجُودِ، وَهُوَ الْفَنَاءُ حَقًّا. هَذَا تَفْصِيلُ مَا أَجْمَلَهُ أَوَّلًا، وَنُبَيِّنُ مَا أَرَادُوا بِالْعِلْمِ، وَالْجَحْدِ، وَالْحَقِّ. فَفَنَاءُ الْمَعْرِفَةِ فِي الْمَعْرُوفِ: هُوَ غَيْبَةُ الْعَارِفِ بِمَعْرُوفِهِ عَنْ شُعُورِهِ بِمَعْرِفَتِهِ وَمَعَانِيهَا فَيَفْنَى بِهِ سُبْحَانَهُ عَنْ وَصْفِهِ هُنَا وَمَا قَامَ بِهِ، فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ فِعْلُهُ وَوَصْفُهُ، فَإِذَا اسْتَغْرَقَ فِي شُهُودِ الْمَعْرُوفِ فَنِيَ عَنْ صِفَةِ نَفْسِهِ وَفِعْلِهَا، وَلَمَّا كَانَتِ الْمَعْرِفَةُ فَوْقَ الْعِلْمِ وَأَخَصَّ مِنْهُ كَانَ فَنَاءُ الْمَعْرِفَةِ فِي الْمَعْرُوفِ مُسْتَلْزِمًا لِفَنَاءِ الْعِلْمِ فِي الْمَعْرِفَةِ، فَيَفْنَى أَوَّلًا فِي الْمَعْرِفَةِ ثُمَّ تَفْنَى الْمَعْرِفَةُ فِي الْمَعْرُوفِ. وَأَمَّا فَنَاءُ الْعِيَانِ فِي الْمُعَايَنِ مَعْنَاهُ: فَالْعِيَانُ فَوْقَ الْمَعْرِفَةِ، فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ مَرْتَبَةٌ فَوْقَ الْعِلْمِ وَدُونَ الْعِيَانِ، فَإِذَا انْتَقَلَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ إِلَى الْعِيَانِ فَنِيَ عِيَانُهُ فِي مُعَايَنِهِ، كَمَا فَنِيَتْ مَعْرِفَتُهُ فِي مَعْرُوفِهِ. وَأَمَّا فَنَاءُ الطَّلَبِ فِي الْوُجُودِ مَعْنَاهُ: فَهُوَ أَنْ لَا يَبْقَى لِصَاحِبِ هَذَا الْفَنَاءِ طَلَبٌ؛ لِأَنَّهُ ظَفِرَ بِالْمَطْلُوبِ الْمُشَاهَدِ، وَصَارَ وَاجِدًا بَعْدَ أَنْ كَانَ طَالِبًا، فَكَانَ إِدْرَاكُهُ أَوَّلًا عِلْمًا، ثُمَّ قَوِيَ فَصَارَ مَعْرِفَةً، ثُمَّ قَوِيَ فَصَارَ عِيَانًا، ثُمَّ تَمَكَّنَ فَصَارَ مَعْرِفَةً، ثُمَّ تَمَكَّنَ فَصَارَ وُجُودًا. وَلَعَلَّكَ أَنَّ تَسْتَنْكِرَ- أَوْ تَسْتَبْعِدَ- هَذِهِ الْأَلْفَاظَ وَمَعَانِيهَا، فَاسْمَعْ ضَرْبَ مَثَلٍ يُهَوِّنُ عَلَيْكَ ذَلِكَ، وَيُقَرِّبُهُ مِنْكَ: مِثْلَ مَلِكٍ- عَظِيمِ السُّلْطَانِ، شَدِيدِ السَّطْوَةِ، تَامِّ الْهَيْبَةِ، قَوِيِّ الْبَأْسِ- اسْتَدْعَى رَجُلًا مِنْ رَعِيَّتِهِ قَدِ اشْتَدَّ جُرْمُهُ وَعِصْيَانُهُ لَهُ، فَحَضَرَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ إِتْلَافُهُ، فَأَحْوَالُهُ فِي حَالِ حُضُورِهِ مُخْتَلِفَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يُشَاهِدُهُ، فَتَارَةً يَتَذَكَّرُ جُرْمَهُ وَسَطْوَةَ السُّلْطَانِ وَقُدْرَتَهُ عَلَيْهِ، فَيُفَكِّرُ فِيمَا سَيَلْقَاهُ، وَتَارَةً تَقْهَرُهُ الْحَالُ الَّتِي هُوَ فِيهَا، فَلَا يَذْكُرُ مَا كَانَ مِنْهُ وَلَا مَا أُحْضِرَ مِنْ أَجْلِهِ، لِغَلَبَةِ الْخَوْفِ عَلَى قَلْبِهِ وَيَأْسِهِ مِنَ الْخَلَاصِ، وَلَكِنَّ عَقْلَهُ وَذِهْنَهُ مَعَهُ، وَتَارَةً يَغِيبُ قَلْبُهُ وَذِهْنُهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا يَشْعُرُ أَيْنَ هُوَ؟ وَلَا مَنْ إِلَى جَانِبِهِ، وَلَا بِمَا يُرَادُ بِهِ، وَرُبَّمَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَا لَا يُرِيدُهُ، فَهَذَا فَنَاءُ الْخَوْفِ. وَمِثَالٌ ثَانٍ فِي فَنَاءِ الْحُبِّ: مُحِبٌّ اسْتَغْرَقَتْ مَحَبَّتُهُ شَخْصًا فِي غَايَةِ الْجَمَالِ وَالْبَهَاءِ، وَأَكْبَرُ أُمْنِيَّتِهِ الْوُصُولُ إِلَيْهِ، وَمُحَادَثَتُهُ وَرُؤْيَتُهُ، فَبَيْنَا هُوَ عَلَى حَالِهِ قَدْ مَلَأَ الْحُبُّ قَلْبَهُ، وَقَدِ اسْتَغْرَقَ فِكْرُهُ فِي مَحْبُوبِهِ، وَإِذَا بِهِ قَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ مَحْبُوبُهُ بَغْتَةً عَلَى أَحْسَنِ هَيْئَةٍ، فَقَابَلَهُ قَرِيبًا مِنْهُ، وَلَيْسَ دُونَهُ سِوَاهُ، أَفَلَيْسَ هَذَا حَقِيقًا أَنْ يَفْنَى عَنْ شُهُودِهِ بَمَشْهُودِهِ، بَلْ وَعَنْ حُبِّهِ بِمَحْبُوبِهِ؟ فَيَمْلِكُ عَلَيْهِ الْمَحْبُوبُ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَإِرَادَتَهُ وَإِحْسَاسَهُ، وَيَغِيبُ بِهِ عَنْ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ؟ وَانْظُرْ إِلَى النِّسْوَةِ كَيْفَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ لَمَّا طَلَعَ عَلَيْهِنَّ يُوسُفُ، وَشَاهَدْنَ ذَلِكَ الْجَمَالَ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُنَّ مِنْ عِشْقِهِ وَمَحَبَّتِهِ مَا تَقَدَّمَ لِامْرَأَةِ الْعَزِيزِ، فَأَفْنَاهُنَّ شُهُودُ جَمَالِهِ عَنْ حَالِهِنَّ حَتَّى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ. وَأَمَّا امْرَأَةُ الْعَزِيزِ: فَإِنَّهَا- وَإِنْ كَانَتْ صَاحِبَةَ الْمَحَبَّةِ- فَإِنَّهَا كَانَتْ قَدْ أَلِفَتْ رُؤْيَتَهُ وَمُشَاهَدَتَهُ، فَلَمَّا خَرَجَ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَلَيْهَا حَالُهَا كَمَا تَغَيَّرَ عَلَى الْعَوَاذِلِ، فَكَانَ مَقَامَهَا الْبَقَاءُ وَمَقَامَهُنَّ الْفَنَاءُ، وَحَصَلَ لَهُنَّ الْفَنَاءُ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: ذُهُولُهُنَّ عَنِ الشُّعُورِ بِقَطْعِ مَا فِي أَيْدِيهِنَّ حَتَّى تَخَطَّاهُ الْقَطْعُ إِلَى الْأَيْدِي. الثَّانِي: فَنَاؤُهُنَّ عَنِ الْإِحْسَاسِ بِأَلَمِ الْقَطْعِ، وَهَكَذَا الْفَنَاءُ بِالْمَخُوفِ، وَالْفَرَحُ بِالْمَحْبُوبِ يُفْنِي صَاحِبَهُ عَنْ شُعُورِهِ وَعَنْ إِحْسَاسِهِ بِالْكَيْفِيَّاتِ النَّفْسَانِيَّةِ. هَذَا فِي مُشَاهَدَةِ مَخْلُوقٍ مُحْدَثٍ لَهُ أَشْبَاهٌ وَأَمْثَالٌ، وَلَهُ مَنْ يُقَارِبُهُ وَيُدَانِيهِ فِي الْجَمَالِ، وَإِنَّمَا فَاقَ بَنِي جِنْسِهِ فِي الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ، وَامْتَازَ بِبَعْضِ الْمَعَانِي الْمَخْلُوقَةِ الْمَصْنُوعَةِ، فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ لَهُ الْجَمَالُ كُلُّهُ، وَالْكَمَالُ كُلُّهُ، وَالْإِحْسَانُ وَالْإِجْمَالُ، وَنِسْبَةُ كُلِّ جَمَالٍ فِي الْوُجُودِ إِلَى جَمَالِهِ وَجَلَالِهِ أَقَلُّ مِنْ نِسْبَةِ سِرَاجٍ ضَعِيفٍ إِلَى عَيْنِ الشَّمْسِ، وَلَمَّا عَلِمَ سُبْحَانَهُ أَنَّ قُوَى الْبَشَرِ لَا تَحْتَمِلُ- فِي هَذِهِ الدَّارِ- رُؤْيَتَهُ؛ احْتَجَبَ عَنْ عِبَادِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَيُنْشِئُهُمْ نَشْأَةً يَتَمَكَّنُونَ بِهَا مِنْ مُشَاهَدَةِ جَمَالِهِ وَرُؤْيَةِ وَجْهِهِ، وَأَنْتَ تَرَى بَعْضَ آيَاتِهِ وَمَخْلُوقَاتِهِ وَمُبْدَعَاتِهِ كَيْفَ يَفْنَى فِيهَا مُشَاهِدُهَا عَنْ غَيْرِهَا؟ وَلَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ فِي الْمُشَاهَدَاتِ العِيَانِيَّةِ، وَالْوَارِدَاتِ الْوِجْدَانِيَّةِ. وَأَمَّا الْمَعَارِفُ الْإِلَهِيَّةُ: فَإِنَّ حَالَةَ " الْبَقَاءِ " فِيهَا أَكْمَلُ مِنْ حَالَةِ " الْفَنَاءِ " وَهِيَ حَالَةُ نَبِيِّنَا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَحَالُ الْكُمَّلِ مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَلِهَذَا رَأَى مَا رَأَى لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ وَهُوَ ثَابِتُ الْقَلْبِ، رَابِطُ الْجَأْشِ، حَاضِرُ الْإِدْرَاكِ، تَامُّ التَّمْيِيزِ، وَلَوْ رَأَى غَيْرُهُ بَعْضَ ذَلِكَ لَمَا تَمَالَكَ. فَإِنْ قُلْتَ: رُبَّمَا أَفْهَمُ مَعْنَى فَنَاءِ الْمَعْرِفَةِ فِي الْمَعْرُوفِ وَفَنَاءِ الْعِيَانِ فِي الْمُعَايَنِ، فَمَا مَعْنَى فَنَاءِ الطَّلَبِ فِي الْوُجُودِ، حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْفَنَاءَ حَقًّا؟ قُلْتُ: مَتَى فَهِمْتَ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ فَهِمْتَ مَعْنَاهُ، فَإِنَّ الْوَاجِدَ لَمَّا ظَفِرَ بِمَوْجُودِهِ فَنِيَ طَلَبُهُ لَهُ وَاضْمَحَلَّ، وَهَذَا مَشْهُودٌ فِي الشَّاهِدِ، فَإِنَّكَ تَرَى طَالِبَ أَمْرٍ مُهِمٍّ، فَإِذَا ظَفِرَتْ يَدَاهُ بِهِ وَأَدْرَكَهُ كَيْفَ يَبْرُدُ طَلَبُهُ، وَيَفْنَى فِي وُجُودِهِ؟ لَكِنَّ هَذَا مُحَالٌ فِي حَقِّ الْعَارِفِ، فَإِنَّ طَلَبَهُ لَا يُفَارِقُهُ، بَلْ إِذَا وَجَدَ اشْتَدَّ طَلَبُهُ، فَلَا يَزَالُ طَالِبًا، فَكُلَّمَا كَانَ أَوْجَدَ كَانَ أَطْلَبَ، نَعَمُ، الَّذِي يَفْنَى طَلَبُ حَظِّهِ فِي طَلَبِ مَحْبُوبِهِ وَطَلَبِ مَرَاضِيهِ، وَلَيْسَ بَعْدَ هَذَا غَايَةٌ، وَلَكِنَّ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ الْقَوْمُ: أَنَّ الْعَبْدَ يَصِلُ فِي مَنْزِلَةِ الْمَحَبَّةِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي الْمُشَاهَدَةِ إِلَى حَالَةٍ تَسْتَوْلِي فِيهَا عَلَيْهِ أَنْوَاعُ الْقُرْبِ وَآثَارُ الصِّفَاتِ، بِحَيْثُ يَذْهَلُ لُبُّهُ عَنْ شُعُورِهِ بِطَلَبِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَقْبَلَ عَلَى رَبِّهِ، وَتَفَقَّدَ أَحْوَالَهُ، وَتَمَكَّنَ مِنْ شُهُودِ قِيَامِ رَبِّهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ: مُكَابِدًا وَصَابِرًا وَمُرَابِطًا، فَإِذَا صَبَرَ وَصَابَرَ وَرَابَطَ- صَبَرَ فِي نَفْسِهِ وَصَابَرَ عَدُوَّهُ، وَرَابَطَ عَلَى ثَغْرِ قَلْبِهِ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ خَاطِرٌ لَا يُحِبُّهُ وَلَيُّهُ الْحَقُّ- ظَهَرَ حِينَئِذٍ فِي قَلْبِهِ نُورٌ مِنْ إِقْبَالِهِ عَلَى رَبِّهِ، فَإِذَا قَوِيَ ذَلِكَ النُّورُ غَيَّبَهُ عَنْ وُجُودِهِ الذِّهْنِيِّ، وَسَرَى بِهِ فِي مَطَاوِي الْغَيْبِ، فَحِينَئِذٍ يَصْفُو لَهُ إِقْبَالُهُ عَلَى رَبِّهِ، فَإِذَا صَفَا لَهُ ذَلِكَ غَابَ عَنْ وُجُودِهِ الْعَيْنِيِّ وَالذِّهْنِيِّ، فَغَابَ بِنُورِ إِقْبَالِهِ عَلَى رَبِّهِ بِوُصُولِ خَالِصِ الذِّكْرِ وَصَافِيهِ إِلَى قَلْبِهِ، حَيْثُ خَلَا مِنْ كُلِّ شَاغِلٍ مِنَ الْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ وَالذِّهْنِيِّ، وَصَارَ وَاحِدًا لِوَاحِدٍ، فَيَسْتَوْلِي نُورُ الْمُرَاقَبَةِ عَلَى أَجْزَاءِ بَاطِنِهِ، فَيَمْتَلِئُ قَلْبُهُ مِنْ نُورِ التَّوَجُّهِ، بِحَيْثُ يَغْمُرُ قَلْبَهُ، وَيَسْتُرُهُ عَمَّا سِوَاهُ، ثُمَّ يَسْرِي ذَلِكَ النُّورُ مِنْ بَاطِنِهِ فَيَعُمُّ أَجْزَاءَ ظَاهِرِهِ، فَيَتَشَابَهُ الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ فِيهِ، وَحِينَئِذٍ يَفْنَى الْعَبْدُ عَمَّا سِوَاهُ، وَيَبْقَى بِالْمَشْهَدِ الرُّوحِيِّ الذَّاتِيِّ الْمُوجِبِ لِلْمَحَبَّةِ الْخَاصَّةِ الْمُلْهِبَةِ لِلرُّوحِ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَضْعُفُ لِقِلَّةِ الْوَارِدِ، فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَّسِعَ لِغَيْرِ مَا بَاشَرَ سِرُّهُ وَقَلْبُهُ مِنْ آثَارِ الْحُبِّ الْخَاصِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْوَى وَيَتَّسِعُ نَظَرُهُ، فَيَجِدُ آثَارَ الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ الْمُقَدَّسِ فِي قَلْبِهِ وَرُوحِهِ، وَيَجِدُ الْعُبُودِيَّةَ وَالْمَحَبَّةَ، وَالدُّعَاءَ وَالِافْتِقَارَ، وَالتَّوَكُّلَ وَالْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ، وَسَائِرَ الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ قَائِمَةً بِقَلْبِهِ، لَا تَشْغَلُهُ عَنْ مَشْهَدِ الرُّوحِ، وَلَا تَسْتَغْرِقُ مَشْهَدَ الرُّوحِ عَنْهُ، وَيَجِدُ مُلَاحَظَتَهُ لِلْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي حَاضِرًا فِي جِذْرِ قَلْبِهِ حَيْثُ نَزَلَتِ الْأَمَانَةُ، فَلَا يَشْغَلُهُ مَشْهَدُ الرُّوحِ الْمُسْتَغْرِقُ، وَلَا مَشْهَدُ الْقَلْبِ عَنْ مُلَاحَظَةِ مَرَاضِي الرَّبِّ تَعَالَى وَمَحَابِّهِ وَحَقِّهِ عَلَى عَبْدِهِ، وَيَجِدُ تَرْكَ التَّدْبِيرِ وَالِاخْتِيَارِ وَصِحَّةَ التَّفْوِيضِ مَوْجُودًا فِي مَحَلِّ نَفْسِهِ، فَيُعَامِلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ، بِحَيْثُ لَا تَشْغَلُهُ مُشَاهَدَةُ الْأُولَى عَنْهُ، وَيَقُومُ بِمُلَاحَظَةِ عَقْلِهِ لِأَسْرَارِ حِكْمَةِ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، وَلَا يَحْجُبُهُ ذَلِكَ كُلُّهُ عَنْ مُلَاحَظَةِ عُبُودِيَّتِهِ، فَيَبْقَى مَغْمُورَ الرُّوحِ بِمُلَاحَظَةِ الْفَرْدَانِيَّةِ وَجَلَالِهَا وَكَمَالِهَا وَجَمَالِهَا، قَدِ اسْتَغْرَقَتْهُ مَحَبَّتُهُ وَالشَّوْقُ إِلَيْهِ، مَعْمُورَ الْقَلْبِ بِعِبَادَاتِ الْقُلُوبِ مَعْمُورَ الْقَلْبِ بِمُلَاحَظَةِ الْحِكْمَةِ وَمَعَانِي الْخِطَابِ، طَاهِرَ الْقَلْبِ عَنْ سَفْسَافِ الْأَخْلَاقِ، مَعَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعَ الْخَلْقِ، قَدْ صَارَ عَبْدًا مَحْضًا لِرَبِّهِ بِرُوحِهِ وَقَلْبِهِ وَعَقْلِهِ، وَنَفْسِهِ وَبَدَنِهِ وَجَوَارِحِهِ، قَدْ قَامَ كُلٌّ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ، بِحَيْثُ لَا تَحْجُبُهُ عُبُودِيَّةُ بَعْضِهِ عَنْ عُبُودِيَّةِ الْبَعْضِ الْآخَرِ، قَدْ فَنِيَ عَنْ نَفْسِهِ وَبَقِيَ بِرَبِّهِ، كَمَاقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْكِتَّانِيُّ: جَرَتْ مَسْأَلَةٌ بِمَكَّةَ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ فِي الْمَحَبَّةِ، فَتَكَلَّمَ الشُّيُوخُ فِيهَا، وَكَانَ الْجُنَيْدُ أَصْغَرَهُمْ سِنًّا، فَقَالُوا لَهُ: هَاتِ مَا عِنْدَكَ يَا عِرَاقِيُّ، فَأَطْرَقَ سَاعَةً، وَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ: عَبْدٌ ذَاهِبٌ عَنْ نَفْسِهِ، وَمُتَّصِلٌ بِذِكْرِ رَبِّهِ، قَائِمٌ بِأَدَاءِ حُقُوقِهِ، نَاظِرٌ إِلَيْهِ بِقَلْبِهِ، أَحْرَقَ قَلْبَهُ أَنْوَارُ هَيْبَتِهِ، وَصَفَا شُرْبُهُ مِنْ كَأْسِ وُدِّهِ، وَانْكَشَفَ لَهُ الْجَبَّارُ مِنْ أَسْتَارِ غَيْبِهِ، فَإِنْ تَكَلَّمَ فَبِاللَّهِ، وَإِنْ نَطَقَ فَعَنِ اللَّهِ، وَإِنْ عَمِلَ فَبِأَمْرِ اللَّهِ، وَإِنْ سَكَنَ فَمَعَ اللَّهِ، فَهُوَ لِلَّهِ، وَبِاللَّهِ، وَمَعَ اللَّهِ. فَبَكَى الشُّيُوخُ، وَقَالُوا: مَا عَلَى هَذَا مَزِيدٌ جَبَرَكَ اللَّهُ يَا تَاجَ الْعَارِفِينَ.
قَالَ الشَّيْخُ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: فَنَاءُ شُهُودِ الطَّلَبِ لِإِسْقَاطِهِ مِنْ دَرَجَاتِ الْفَنَاءِ، وَفَنَاءُ شُهُودِ الْعِلْمِ لِإِسْقَاطِهِ، وَفَنَاءُ شُهُودِ الْعِيَانِ لِإِسْقَاطِهِ. إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ مِنَ الْفَنَاءِ أَعْلَى عِنْدَهُ مِمَّا قَبْلَهَا؛ لِأَنَّهَا أَبْلَغُ فِي الْفَنَاءِ مِنْ جِهَةِ فَنَاءِ أَرْبَابِهَا عَنْ فَنَائِهِمْ، فَقَدْ سَقَطَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ذِكْرُ أَحْوَالِهِمْ وَمَقَامَاتِهِمْ لِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الشُّغْلِ بِرَبِّهِمْ. وَقَوْلُهُ " لِإِسْقَاطِهِ " أَيْ لِإِسْقَاطِ الشُّهُودِ، لَا إِسْقَاطِ الْمَشْهُودِ، فَالطَّلَبُ وَالْعِلْمُ وَالْعِيَانُ قَائِمٌ، وَقَدْ سَقَطَ الشُّهُودُ، لِاسْتِغْرَاقِ صَاحِبِهِ فِي الْمَطْلُوبِ الْمُعَايَنِ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: الْفَنَاءُ عَنْ شُهُودِ الْفَنَاءِ مِنْ دَرَجَاتِ الْفَنَاءِ، وَهُوَ الْفَنَاءُ حَقًّا، شَائِمًا بَرْقَ الْعَيْنِ، رَاكِبًا بَحْرَ الْجَمْعِ، سَالِكًا سَبِيلَ الْبَقَاءِ. الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَنَاءِ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا أَنَّهُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا قَدْ فَنِيَ عَنْ شُهُودِ طَلَبِهِ وَعِلْمِهِ وَعِيَانِهِ، مَعَ شُعُورِهِ بِفَنَائِهِ عَنْ ذَلِكَ، وَفِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ قَدْ فَنِيَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَفَنِيَ عَنْ شُهُودِ فَنَائِهِ، كَمَا يُقَالُ: آخِرُ مَنْ يَمُوتُ مَلَكُ الْمَوْتِ. وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْفَنَاءُ عِنْدَهُ هُوَ الْفَنَاءَ حَقًّا؛ لِأَنَّهُ قَدْ فَنِيَ فِيهِ كُلُّ مَا سِوَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَشْهَدُ الْفَنَاءَ قَدْ فَنِيَ، فَلَمْ يَبْقَ سِوَى الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ. وَقَوْلُهُ " شَائِمًا بَرْقَ الْعَيْنِ " الشَّائِمُ النَّاظِرُ مِنْ بُعْدٍ، وَبَرْقُ الْعَيْنِ نُورُ الْحَقِيقَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى اسْتِحَالَةِ تَعَلُّقِ هَذَا بِالنُّورِ الْخَارِجِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ أَنْوَارُ الْقُرْبِ وَالْمُرَاقَبَةِ وَالْحُضُورِ مَعَ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ " رَاكِبًا بَحْرَ الْجَمْعِ " " الْجَمْعُ " الَّذِي يُشِيرُونَ إِلَيْهِ: عِبَارَةٌ عَنْ شُخُوصِ الْبَصِيرَةِ إِلَى مُجَرَّدِ مَصْدَرِ الْمُتَفَرِّقَاتِ كُلِّهَا، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي بَابِهِ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- وَرُكُوبُ لُجَّةِ هَذَا الْجَمْعِ هُوَ فَنَاؤُهُ فِيهِ. قَوْلُهُ " سَالِكًا سَبِيلَ الْبَقَاءِ " يَعْنِي: أَنَّ مَنْ فَنِيَ فَقَدْ تَأَهَّلَ لِلْبَقَاءِ بِالْحَقِّ، وَهَذَا الْبَقَاءُ هُوَ بَعْدَ الْفَنَاءِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَحَقَّقَ بِالْفَنَاءِ رُفِعَ لَهُ عَلَمُ الْحَقِيقَةِ، فَشَمَّرَ إِلَيْهِ سَالِكًا فِي طَرِيقِ الْبَقَاءِ، وَهِيَ الْقِيَامُ بِالْأَوْرَادِ، وَحِفْظُ الْوَارِدَاتِ، فَحِينَئِذٍ يُرْجَى لَهُ الْوُصُولُ.
لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ، وَلَا فِي السُّنَّةِ، وَلَا فِي كَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَدْحُ لَفْظِ الْفَنَاءِ وَلَا ذَمُّهُ، وَلَا اسْتَعْمَلُوا لَفْظَهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى الْمُشَارِ إِلَيْهِ الْبَتَّةَ، وَلَا ذَكَرَهُ مَشَايِخُ الطَّرِيقِ الْمُتَقَدِّمُونَ، وَلَا جَعَلُوهُ غَايَةً وَلَا مَقَامًا، وَقَدْ كَانَ الْقَوْمُ أَحَقَّ بِكُلِّ كَمَالٍ، وَأَسْبَقَ إِلَى كُلِّ غَايَةٍ مَحْمُودَةٍ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ هَذَا اللَّفْظَ مُطْلَقًا، وَلَا نَقْبَلُهُ مُطْلَقًا. وَلَابُدَّ فِيهِ مِنَ التَّفْصِيلِ، وَبَيَانِ صَحِيحِهِ مِنْ مَعْلُولِهِ، وَوَسِيلَتِهِ مِنْ غَايَتِهِ، فَنَقُولُ- وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ: حَقِيقَةُ " الْفَنَاءِ " الْمُشَارِ إِلَيْهِ هُوَ اسْتِهْلَاكُ الشَّيْءِ فِي الْوُجُودِ الْعِلْمِيِّ الذِّهْنِيِّ، وَهَاهُنَا تَقَسَّمَهُ أَهْلُ الِاسْتِقَامَةِ وَأَهْلُ الزَّيْغِ وَالْإِلْحَادِ، فَزَعَمَ أَهْلُ الِاتِّحَادِ- الْقَائِلُونَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ- أَنَّ الْفَنَاءَ هُوَ غَايَةُ الْفَنَاءِ عَنْ وُجُودِ السِّوَى، فَلَا يَثْبُتُ لِلسِّوَى وُجُودٌ الْبَتَّةَ، لَا فِي الشُّهُودِ وَلَا فِي الْعِيَانِ، بَلْ يَتَحَقَّقُ بِشُهُودِ وَحْدَةِ الْوُجُودِ، فَيَعْلَمُ حِينَئِذٍ أَنَّ وُجُودَ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْحَقِّ، فَمَا ثَمَّ وُجُودَانِ، بَلِ الْمَوْجُودُ وَاحِدٌ، وَحَقِيقَةُ الْفَنَاءِ عِنْدَهُمْ أَنْ يَفْنَى عَمَّا لَا حَقِيقَةَ لَهُ، بَلْ هُوَ وَهْمٌ وَخَيَالٌ، فَيَفْنَى عَمَّا هُوَ فَانٍ فِي نَفْسِهِ، لَا وُجُودَ لَهُ، فَيَشْهَدُ فَنَاءَ وُجُودِ كُلِّ مَا سِوَاهُ فِي وُجُودِهِ، وَهَذَا تَعْبِيرٌ مَحْضٌ، وَإِلَّا فَفِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ عِنْدَ الْقَوْمِ " سِوَى " وَلَا " غَيْرُ " وَإِنَّمَا السِّوَى وَالْغَيْرُ فِي الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ، فَحَوْلَ هَذَا الْفَنَاءِ يُدَنْدِنُونَ وَعَلَيْهِ يَحُومُونَ. وَأَمَّا أَهْلُ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِقَامَةِ: فَيُشِيرُونَ بِالْفَنَاءِ إِلَى أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَرْفَعُ مِنَ الْآخَرِ. الْأَمْرُ الْأَوَّلُ: الْفَنَاءُ فِي شُهُودِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْقَيُّومِيَّةِ، فَيَشْهَدُ تَفَرُّدَ الرَّبِّ تَعَالَى بِالْقَيُّومِيَّةِ وَالتَّدْبِيرِ، وَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ، وَالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ، وَالضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَأَنَّ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ مُنْفَعِلَةٌ لَا فَاعِلَةٌ، وَمَا لَهُ مِنْهَا فِعْلٌ فَهُوَ مُنْفَعِلٌ فِي فِعْلِهِ، مَحَلُّ مَحْضٍ لِجَرَيَانِ أَحْكَامِ الرُّبُوبِيَّةِ عَلَيْهِ، لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْهَا لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ، فَلَا يَمْلِكُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، فَإِذَا تَحَقَّقَ الْعَبْدُ بِهَذَا الْمَشْهَدِ؛ خَمَدَتْ مِنْهُ الْخَوَاطِرُ وَالْإِرَادَاتُ، نَظَرًا إِلَى الْقَيُّومِ الَّذِي بِيَدِهِ تَدْبِيرُ الْأُمُورِ، وَشَخُوصًا مِنْهُ إِلَى مَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ فَهُوَ نَاظِرٌ مِنْهُ بِهِ إِلَيْهِ، فَانٍ بِشُهُودِهِ عَنْ شُهُودِ مَا سِوَاهُ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ سَاعٍ فِي طَلَبِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، قَائِمًا بِالْوَاجِبَاتِ وَالنَّوَافِلِ. الْأَمْرُ الثَّانِي: الْفَنَاءُ فِي مَشْهَدِ الْإِلَهِيَّةِ، وَحَقِيقَتُهُ " الْفَنَاءُ " عَنْ إِرَادَةِ مَا سِوَى اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ، فَيَفْنَى بِحُبِّهِ عَنْ حُبِّ مَا سِوَاهُ، وَبِخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ عَنْ خَوْفِ مَا سِوَاهُ وَرَجَائِهِ، وَحَقِيقَةُ هَذَا الْفَنَاءِ إِفْرَادُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِالْمَحَبَّةِ، وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَى مَبَادِئِ ذَلِكَ وَتَوَسُّطِهِ وَغَايَتِهِ، فَنَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ الْقَلْبَ إِذَا خَلَا مِنَ الِاهْتِمَامِ بِالدُّنْيَا وَالتَّعَلُّقِ بِمَا فِيهَا مِنْ مَالٍ، أَوْ رِيَاسَةٍ أَوْ صُورَةٍ، وَتَعَلَّقَ بِالْآخِرَةِ، وَالِاهْتِمَامِ بِهَا مِنْ تَحْصِيلِ الْعُدَّةِ، وَالتَّأَهُّبِ لِلْقُدُومِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَذَلِكَ أَوَّلُ فُتُوحِهِ، مَرَاتِبُ وَصُولِ الْعَبْدِ إِلَى رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَتَبَاشِيرُ فَجْرِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَحَرَّكُ قَلْبُهُ لِمَعْرِفَةِ مَا يَرْضَى بِهِ رَبُّهُ مِنْهُ، فَيَفْعَلُهُ وَيَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ، وَمَا يُسْخِطُهُ مِنْهُ، فَيَجْتَنِبُهُ، وَهَذَا عُنْوَانُ صِدْقِ إِرَادَتِهِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ أَيْقَنَ بِلِقَاءِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ سَائِلُهُ عَنْ كَلِمَتَيْنِ- يُسْأَلُ عَنْهُمُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ- مَاذَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ وَمَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ؟ لَابُدَّ أَنْ يَتَنَبَّهَ لِطَلَبِ مَعْرِفَةِ مَعْبُودِهِ، وَالطَّرِيقِ الْمُوصِلَةِ إِلَيْهِ، فَإِذَا تَمَكَّنَ فِي ذَلِكَ فَتَحَ لَهُ بَابَ الْأُنْسِ بِالْخَلْوَةِ وَالْوَحْدَةِ وَالْأَمَاكِنِ الْخَالِيَةِ الَّتِي تَهْدَأُ فِيهَا الْأَصْوَاتُ وَالْحَرَكَاتُ، فَلَا شَيْءَ أَشْوَقُ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا تَجْمَعُ عَلَيْهِ قُوَى قَلْبِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَتَسُدُّ عَلَيْهِ الْأَبْوَابَ الَّتِي تُفَرِّقُ هَمَّهُ وَتَشِتُّ قَلْبَهُ، فَيَأْنَسُ بِهَا وَيَسْتَوْحِشُ مِنَ الْخَلْقِ. ثُمَّ يَفْتَحُ لَهُ بَابَ حَلَاوَةِ الْعِبَادَةِ بِحَيْثُ لَا يَكَادُ يَشْبَعُ مِنْهَا، وَيَجِدُ فِيهَا مِنَ اللَّذَّةِ وَالرَّاحَةِ أَضْعَافَ مَا كَانَ يَجِدُهُ فِي لَذَّةِ اللَّهْوِ، وَاللَّعِبِ، وَنَيْلِ الشَّهَوَاتِ، بِحَيْثُ إِنَّهُ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ، وَدَّ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْهَا، ثُمَّ يَفْتَحُ لَهُ بَابَ حَلَاوَةِ اسْتِمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ فَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ، وَإِذَا سَمِعَهُ هَدَأَ قَلْبُهُ بِهِ كَمَا يَهْدَأُ الصَّبِيُّ إِذَا أُعْطِيَ مَا هُوَ شَدِيدُ الْمَحَبَّةِ لَهُ، ثُمَّ يَفْتَحُ لَهُ بَابَ شُهُودِ عَظَمَةِ اللَّهِ الْمُتَكَلَّمِ بِهِ وَجَلَالِهِ، وَكَمَالِ نُعُوتِهِ وَصِفَاتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَمَعَانِي خِطَابِهِ، بِحَيْثُ يَسْتَغْرِقُ قَلْبُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَغِيبَ فِيهِ، وَيُحِسُّ بِقَلْبِهِ وَقَدْ دَخَلَ فِي عَالَمٍ آخَرَ غَيْرِ مَا النَّاسُ فِيهِ. ثُمَّ يَفْتَحُ لَهُ بَابَ الْحَيَاءِ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ أَوَّلُ شَوَاهِدِ الْمَعْرِفَةِ، وَهُوَ نُورٌ يَقَعُ فِي الْقَلْبِ، يُرِيهِ ذَلِكَ النُّورُ أَنَّهُ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَسْتَحِي مِنْهُ فِي خَلَوَاتِهِ، وَجَلَوَاتِهِ، وَيُرْزَقُ عِنْدَ ذَلِكَ دَوَامَ الْمُرَاقَبَةِ لِلرَّقِيبِ، وَدَوَامَ التَّطَلُّعِ إِلَى حَضْرَةِ الْعَلِيِّ الْأَعْلَى، حَتَّى كَأَنَّهُ يَرَاهُ وَيُشَاهِدُهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، مُسْتَوِيًا عَلَى عَرْشِهِ، نَاظِرًا إِلَى خَلْقِهِ، سَامِعًا لِأَصْوَاتِهِمْ، مُشَاهِدًا لِبَوَاطِنِهِمْ، فَإِذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ هَذَا الشَّاهِدُ غَطَّى عَلَيْهِ كَثِيرًا مِنَ الْهُمُومِ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، فَهُوَ فِي وُجُودٍ وَالنَّاسُ فِي وُجُودٍ آخَرَ، هُوَ فِي وُجُودٍ بَيْنِ يَدَيْ رَبِّهِ وَوَلِيِّهِ، نَاظِرًا إِلَيْهِ بِقَلْبِهِ، وَالنَّاسُ فِي حِجَابِ عَالَمِ الشَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ يَرَاهُمْ وَهُمْ لَا يَرَوْنَهُ، وَلَا يَرَوْنَ مِنْهُ إِلَّا مَا يُنَاسِبُ عَالَمَهُمْ وَوُجُودَهُمْ. ثُمَّ يَفْتَحُ لَهُ بَابَ الشُّعُورِ بِمَشْهَدِ الْقَيُّومِيَّةِ، فَيَرَى سَائِرَ التَّقَلُّبَاتِ الْكَوْنِيَّةِ وَتَصَارِيفَ الْوُجُودِ بِيَدِهِ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ، فَيَشْهَدُهُ مَالِكَ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ، وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، فَيَتَّخِذُهُ وَحْدَهُ وَكِيلًا، وَيَرْضَى بِهِ رَبًّا وَمُدَبِّرًا وَكَافِيًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ إِذَا وَقَعَ نَظَرُهُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ دَلَّهُ عَلَى خَالِقِهِ وَبَارِئِهِ، وَصِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلَالِهِ، فَلَا يَحْجُبُهُ خَلْقُهُ عَنْهُ سُبْحَانَهُ، بَلْ يُنَادِيهِ كُلٌّ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ بِلِسَانِ حَالِهِ: اسْمَعْ شَهَادَتِي لِمَنْ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، فَأَنَا صُنْعُ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ. فَإِذَا اسْتَمَرَّ لَهُ ذَلِكَ فَتَحَ عَلَيْهِ بَابَ الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ، فَيَقْبِضُ عَلَيْهِ حَتَّى يَجِدَ أَلَمَ الْقَبْضِ لِقُوَّةِ وَارِدِهِ، ثُمَّ يَقْبِضُ وِعَاءَهُ بِأَنْوَارِ الْوُجُودِ، فَيَفْنَى عَنْ وُجُودِهِ، وَيَنْمَحِي كَمَا يَمْحُو نُورُ الشَّمْسِ نُورَ الْكَوَاكِبِ، وَيَطْوِي الْكَوْنَ عَنْ قَلْبِهِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى فِيهِ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، وَتَفِيضُ أَنْوَارُ الْمَعْرِفَةِ وَالْمُعَامَلَةِ وَالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْمَحَبَّةِ مِنْ قَلْبِهِ، كَمَا يَفِيضُ نُورُ الشَّمْسِ عَنْ جِرْمِهَا، فَيَغْرَقُ حِينَئِذٍ فِي الْأَنْوَارِ كَمَا يَغْرَقُ رَاكِبُ الْبَحْرِ فِي الْبَحْرِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الرِّيَاضَةِ وَالْمُجَاهَدَةِ، وَزَوَالِ أَحْكَامِ الطَّبِيعَةِ، وَطُولِ الْوُقُوفِ فِي الْبَابِ. وَهَذَا هُوَ مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ، لَا مِنْ عَيْنِ الْيَقِينِ، وَلَا مِنْ حَقِّ الْيَقِينِ، إِذْ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِمَا فِي الدَّارِ، فَإِنَّ عَيْنَ الْيَقِينِ مُشَاهَدَةٌ، وَحَقَّ الْيَقِينِ مُبَاشَرَةٌ، نَعَمْ قَدْ يَكُونُ حَقُّ الْيَقِينِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوُجُودِ الذِّهْنِيِّ، وَمَا يَقُومُ بِالْقُلُوبِ فَقَطْ، لَيْسَ إِلَّا، كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ مِرَارًا، وَنَحْنُ لَا تَأْخُذُنَا فِي ذَلِكَ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَهُمْ لَا تَأْخُذُهُمْ فِي كَوْنِ ذَلِكَ فِي الْعِيَانِ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَهُمْ عِنْدَنَا صَادِقُونَ مَلْبُوسٌ عَلَيْهِمْ، وَنَحْنُ عِنْدَهُمْ مَحْجُوبُونَ عَنْ ذَلِكَ غَيْرُ وَاصِلِينَ إِلَيْهِ. فَإِنِ اسْتَمَرَّ عَلَى حَالِهِ وَاقِفًا بِبَابِ مَوْلَاهُ، لَا يَلْتَفِتُ عَنْهُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا، وَلَا يُجِيبُ غَيْرَ مَنْ يَدْعُوهُ إِلَيْهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْرَ وَرَاءَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ بَعْدُ، وَمَتَى تَوَهَّمَ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ انْقَطَعَ عَنْهُ الْمَزِيدُ- رُجِيَ أَنْ يُفْتَحَ لَهُ فَتْحٌ آخَرُ، هُوَ فَوْقَ مَا كَانَ فِيهِ، مُسْتَغْرِقًا قَلْبُهُ فِي أَنْوَارِ مُشَاهَدَةِ الْجَلَالِ بَعْدَ ظُهُورِ أَنْوَارِ الْوُجُودِ الْحَقِّ، وَمَحْوِ وُجُودِهِ هُوَ، وَلَا يَتَوَهَّمُ أَنَّ وُجُودَ صِفَاتِهِ وَذَاتِهِ تَبْطُلُ، بَلِ الَّذِي يَبْطُلُ هُوَ وُجُودُهُ النَّفْسَانِيُّ الطَّبْعِيُّ، وَيَبْقَى لَهُ وُجُودٌ قَلْبِيٌّ رُوحَانِيٌّ مَلَكِيٌّ، فَيَبْقَى قَلْبُهُ سَابِحًا فِي بَحْرٍ مِنْ أَنْوَارِ آثَارِ الْجَلَالِ، فَتَنْبُعُ الْأَنْوَارُ مِنْ بَاطِنِهِ، كَمَا يَنْبُعُ الْمَاءُ مِنَ الْعَيْنِ، حَتَّى يَجِدَ الْمَلَكُوتَ الْأَعْلَى كَأَنَّهُ فِي بَاطِنِهِ وَقَلْبِهِ، وَيَجِدُ قَلْبَهُ عَالِيًا عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، صَاعِدًا إِلَى مَنْ لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، ثُمَّ يُرَقِّيهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، فَيُشْهِدُهُ أَنْوَارَ الْإِكْرَامِ بَعْدَ مَا شَهِدَ أَنْوَارَ الْجَلَالِ، فَيَسْتَغْرِقُ فِي نُورٍ مِنْ أَنْوَارِ أَشِعَّةِ الْجَمَالِ، وَفِي هَذَا الْمَشْهَدِ يَذُوقُ الْمَحَبَّةَ الْخَاصَّةَ الْمُلْهِبَةَ لِلْأَرْوَاحِ وَالْقُلُوبِ، فَيَبْقَى الْقَلْبُ مَأْسُورًا فِي يَدِ حَبِيبِهِ وَوَلِيِّهِ، مَمْتَحَنًا بِحُبِّهِ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَفْهَمَ ذَلِكَ تَقْرِيبًا، فَانْظُرْ إِلَيْكَ وَإِلَى غَيْرِكَ- وَقَدِ امْتُحِنْتَ بِصُورَةٍ بَدِيعَةِ الْجَمَالِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا- فَمَلَكَتْ عَلَيْكَ قَلْبَكَ وَفِكْرَكَ، وَلَيْلَكَ وَنَهَارَكَ، فَيَحْصُلُ لَكَ نَارٌ مِنَ الْمَحَبَّةِ، فَتُضْرَمُ فِي أَحْشَائِكَ يَعِزُّ مَعَهَا الِاصْطِبَارُ، وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. فَيَا لَهُ مِنْ قَلْبٍ مُمْتَحَنٍ مَغْمُورٍ مُسْتَغْرِقٌ بِمَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ أَشِعَّةِ أَنْوَارِ الْجَمَالِ الْأَحَدِىِّ، وَالنَّاسُ مَفْتُونُونَ مُمْتَحَنُونَ بِمَا يَفْنَى مِنَ الْمَالِ وَالصُّوَرِ وَالرِّيَاسَةِ، مُعَذَّبُونَ بِذَلِكَ قَبْلَ حُصُولِهِ، وَحَالَ حُصُولِهِ، وَبَعْدَ حُصُولِهِ، وَأَعْلَاهُمْ مَرْتَبَةً مَنْ يَكُونُ مَفْتُونًا بِالْحُورِ الْعِيْنِ، أَوْ عَامِلًا عَلَى تَمَتُّعِهِ فِي الْجَنَّةِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالنِّكَاحِ، وَهَذَا الْمُحِبُّ قَدْ تَرَقَّى فِي دَرَجَاتِ الْمَحَبَّةِ عَلَى أَهْلِ الْمَقَامَاتِ، يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فِي الْجَنَّةِ كَمَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ الْغَابِرِ فِي الْأُفُقِ لِعُلُوِّ دَرَجَتِهِ وَقُرْبِ مَنْزِلَتِهِ مِنْ حَبِيبِهِ، وَمَعِيَّتِهِ مَعَهُ، فَإِنَّ الْمَرْءَ مَعَ مَنْ أَحَبَّ وَلِكُلِّ عَمَلٍ جَزَاءٌ، وَجَزَاءُ الْمَحَبَّةِ الْمَحَبَّةُ وَالْوُصُولُ وَالِاصْطِنَاعُ وَالْقُرْبُ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَصْلُحُ، وَكَفَى بِذَلِكَ شَرَفًا وَفَخْرًا فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا، فَمَا ظَنُّكَ بِمَقَامَاتِهِمُ الْعَالِيَةِ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ؟ فَكَيْفَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ أَسْمَعَهُمُ الْمُنَادِي " لِيَنْطَلِقْ كُلُّ قَوْمٍ مَعَ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ " فَيَبْقَوْنَ فِي مَكَانِهِمْ يَنْتَظِرُونَ مَعْبُودَهُمْ وَحَبِيبَهُمُ الَّذِي هُوَ أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَيْهِمْ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ، فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَيَتَجَلَّى لَهُمْ ضَاحِكًا. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ لَا يَزَالُ اللَّهُ يُرَقِّيهِ طَبَقًا بَعْدَ طَبَقٍ، وَمَنْزِلًا بَعْدَ مَنْزِلٍ، إِلَى أَنْ يُوصِلَهُ إِلَيْهِ، وَيُمَكِّنَ لَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَوْ يَمُوتَ فِي الطَّرِيقِ، فَيَقَعُ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، فَالسَّعِيدُ كُلُّ السَّعِيدِ، وَالْمُوَفَّقُ كُلُّ الْمُوَفَّقِ مَنْ لَمْ يَلْتَفِتْ عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَمِينًا وَلَا شَمَالًا، وَلَا اتَّخَذَ سِوَاهُ رَبًّا وَلَا وَكِيلًا، وَلَا حَبِيبًا وَلَا مُدَبِّرًا، وَلَا حَكَمًا وَلَا نَاصِرًا وَلَا رَازِقًا. وَجَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَرَاتِبِ الْوُصُولِ إِنَّمَا هِيَ شَوَاهِدُ وَأَمْثِلَةٌ إِذَا تَجَلَّتْ لَهُ الْحَقَائِقُ فِي الْغَيْبِ- بِحَسْبِ اسْتِعْدَادِهِ وَلُطْفِهِ وَرِقَّتِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاهَا- ظَهَرَ مِنْ تَجَلِّيهَا شَاهِدٌ فِي قَلْبِهِ، وَذَلِكَ الشَّاهِدُ دَالٌّ عَلَيْهَا لَيْسَ هُوَ عَيْنَهَا، فَإِنَّ نُورَ الْجَلَالِ فِي الْقَلْبِ لَيْسَ هُوَ نُورَ ذِي الْجَلَالِ فِي الْخَارِجِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا تَقُومُ لَهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَلَوْ ظَهَرَ لِلْوُجُودِ لَتَدَكْدَكَ، لَكِنَّهُ شَاهِدٌ دَالٌّ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا أَنَّ الْمَثَلَ الْأَعْلَى شَاهِدٌ دَالٌّ عَلَى الذَّاتِ، وَالْحَقُّ وَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ، مُنَزَّهٌ عَنْ حُلُولٍ وَاتِّحَادٍ، وَمُمَازَجَةٍ لِخَلْقِهِ، وَإِنَّمَا تِلْكَ رَقَائِقُ وَشَوَاهِدُ تَقُومُ بِقَلْبِ الْعَارِفِ، تَدُلُّ عَلَى قُرْبِ الْأَلْطَافِ مِنْهُ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ حَيْثُ يَرَاهَا، وَإِذَا فَنِيَ فَإِنَّمَا يَفْنَى بِحَالِ نَفْسِهِ لَا بِاللَّهِ وَلَا فِيهِ، وَإِذَا بَقِيَ فَإِنَّمَا يَبْقَى بِحَالِهِ هُوَ وَوَصْفِهِ، لَا بِبَقَاءِ رَبِّهِ وَصِفَاتِهِ، وَلَا يَبْقَى بِاللَّهِ إِلَّا اللَّهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْوُصُولُ حَقٌّ، يَجِدُ الْوَاصِلُ آثَارَ تَجَلِّي الصِّفَاتِ فِي قَلْبِهِ، وَآثَارَ تَجَلِّي الْحَقِّ فِي قَلْبِهِ، وَيُوقِفُ الْقَلْبَ فَوْقَ الْأَكْوَانِ كُلِّهَا بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ، وَمِنْ هُنَاكَ يُكَاشَفُ بِآثَارِ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، فَيَجِدُ الْعَرْشَ وَالْكُرْسِيَّ تَحْتَ مَشْهَدِ قَلْبِهِ حُكْمًا، وَلَيْسَ الَّذِي يَجِدُهُ تَحْتَ قَلْبِهِ حَقِيقَةً الْعَرْشَ وَالْكُرْسِيَّ، بَلْ شَاهِدٌ وَمِثَالٌ عِلْمِيٌّ، يَدُلُّ عَلَى قُرْبِ قَلْبِهِ مِنْ رَبِّهِ، وَقُرْبِ رَبِّهِ مِنْ قَلْبِهِ، وَبَيْنَ الذَّوْقَيْنِ تَفَاوُتٌ، فَإِذَا قَرُبَ الرَّبُّ تَعَالَى مِنْ قَلْبِ عَبْدِهِ بَقِيَتِ الْأَكْوَانُ كُلُّهَا تَحْتَ مَشْهَدِ قَلْبِهِ، وَحِينَئِذٍ يَطْلُعُ فِي أُفُقِهِ شَمْسُ التَّوْحِيدِ، فَيَنْقَشِعُ بِهَا ضَبَابُ وُجُودِهِ وَيَضْمَحِلُّ وَيَتَلَاشَى، وَذَاتُهُ وَحَقِيقَتُهُ مَوْجُودَةٌ بَائِنَةٌ عَنْ رَبِّهِ، وَرَبُّهُ بَائِنٌ عَنْهُ، فَحِينَئِذٍ يَغِيبُ الْعَبْدُ عَنْ نَفْسِهِ وَيَفْنَى، وَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ بَاقٍ، غَيْرُ فَانٍ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ فِي سِرِّهِ غَيْرُ اللَّهِ، قَدْ فَنِيَ فِيهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ. نَعَمْ قَدْ يَتَّفِقُ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ لَا يَجِدَ شَيْئًا غَيْرَ اللَّهِ فَذَلِكَ لِاسْتِغْرَاقِ قَلْبِهِ فِي مَشْهُودِهِ وَمَوْجُودِهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لَكَانَ الْعَبْدُ فِي هَذِهِ الْحَالِ خَالِقًا بَارِئًا مُصَوِّرًا أَزَلِيًّا أَبَدِيًّا. فَعَلَيْكَ بِهَذَا الْفُرْقَانِ، وَاحْذَرْ فَرِيقَيْنِ هُمَا أَعْدَى عَدُوٍّ لِهَذَا الشَّأْنِ: فَرِيقَ الْجَهْمِيَّةِ الْمُعَطِّلَةِ، الَّتِي لَيْسَ عِنْدَهَا فَوْقَ الْعَرْشِ إِلَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ، فَشَمُّ رَائِحَةِ هَذَا الْمَقَامِ مِنْ أَبْعَدِ الْأَمْكِنَةِ حَرَامٌ عَلَيْهَا، وَفَرِيقَ أَهْلِ الِاتِّحَادِ الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ وَأَنَّ الْعَبْدَ يَنْتَهِي فِي هَذَا السَّفَرِ إِلَى أَنْ يَشْهَدَ وُجُودَهُ هُوَ عَيْنَ وُجُودِ الْحَقِّ جَلَّ جَلَالُهُ، وَعَيْشُكَ بِجَهْلِكَ خَيْرٌ مِنْ مَعْرِفَةِ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ، وَانْقِطَاعُكَ مَعَ الشَّهَوَاتِ خَيْرُكَ مَعَهُمَا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
قَالَ الشَّيْخُ:(بَابُ الْبَقَاءِ) قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}. الْبَقَاءُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ " وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى "، الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ الْقَوْمُ: هُوَ صِفَةُ الْعَبْدِ وَمَقَامُهُ، وَالْبَقَاءُ فِي الْآيَةِ: هُوَ بَقَاءُ الرَّبِّ، وَدَوَامُ وَجُودِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ مُؤْمِنُو السَّحَرَةِ فِي هَذَا الْمَكَانِ؛ لِأَنَّ عَدُوَّ اللَّهِ فِرْعَوْنَ تَوَعَّدَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ بِإِتْلَافِ حَيَاتِهِمْ، وَإِفْنَاءِ ذَوَاتِهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: وَإِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ، فَالَّذِي آمَنَّا بِهِ وَانْتَقَلْنَا مِنْ عُبُودِيَّتِكَ إِلَى عُبُودِيَّتِهِ، وَمِنْ طَلَبِ رِضَاكَ وَالْمَنْزِلَةِ عِنْدَكَ إِلَى طَلَبِ رِضَاهُ وَالْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُ- خَيْرٌ مِنْكَ وَأَدْوَمُ، وَعَذَابُكَ وَنَعِيمُكَ يَنْقَطِعُ وَيَفْرَغُ، وَعَذَابُهُ هُوَ وَنَعِيمُهُ وَكَرَامَتُهُ لَا تَنْقَطِعُ وَلَا تَبِيدُ، فَكَيْفَ نُؤْثِرُ الْمُنْقَطِعَ الْفَانِيَ الْأَدْنَى، عَلَى الْبَاقِي الْمُسْتَمِرِّ الْأَعْلَى؟ وَلَكِنْ وَجْهُ الْإِشَارَةِ بِالْآيَةِ أَنَّ الْوَسَائِلَ وَالتَّعَلُّقَاتِ وَالْمَحَبَّةَ وَالْإِرَادَةَ تَابِعَةٌ لِغَايَاتِهَا وَمَحْبُوبِهَا وَمُرَادِهَا، فَمَنْ كَانَتْ غَايَةُ مَحَبَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ مُنْقَطِعَةً انْقَطَعَ تَعَلُّقُهُ عِنْدَ انْقِطَاعِهَا، وَذَهَبَ عَمَلُهُ وَسَعْيُهُ وَاضْمَحَلَّ، وَمَنْ كَانَ مَطْلُوبُهُ وَغَايَتُهُ بَاقِيًا دَائِمًا لَا زَوَالَ لَهُ وَلَا فَنَاءَ، وَلَا يَضْمَحِلُّ وَلَا يَتَلَاشَى دَامَ تَعَلُّقُهُ وَنَعِيمُهُ بِهِ بِدَوَامِهِ، فَالْوَسَائِلُ تَابِعَةٌ لِلْغَايَاتِ، وَالتَّعَلُّقَاتُ تَابِعَةٌ لِمُتَعَلِّقَاتِهَا، وَالْمَحَبَّةُ تَابِعَةٌ لِلْمَحْبُوبِ، فَلَيْسَ الْمَحْبُوبُ الَّذِي يَتَلَاشَى وَيَضْمَحِلُّ وَيَفْنَى كَالْمَحْبُوبِ الَّذِي كَلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ فَالْمُحِبُّ بَاقٍ بِبَقَاءِ مَحْبُوبِهِ، يَشْرُفُ بِشَرَفِهِ، وَيَعْظُمُ خَطَرُهُ بِحَسَبِ مَحْبُوبِهِ، وَيَسْتَغْنِي بِغِنَاهُ، وَيَقْوَى بِقُوَّتِهِ، وَيَعِزُّ بِعِزِّهِ، وَيَعْظُمُ شَأْنُهُ فِي النُّفُوسِ بِخِدْمَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، تَاللَّهِ لَوْلَا حِجَابُ الْغَفْلَةِ وَالْعَوَائِدُ وَالْهَوَى وَالْمُخَالَفَاتُ لَذَاقَ الْقَلْبُ أَعْظَمَ الْأَلَمِ بِتَعَلُّقِهِ بِغَيْرِ الْحَبِيبِ الْأَوَّلِ، وَلَذَاقَ أَعْظَمَ اللَّذَّةِ وَالسُّرُورِ بِتَعَلُّقِهِ بِهِ، فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
قَالَ الشَّيْخُ: " الْبَقَاءُ: اسْمٌ لِمَا بَقِيَ بَعْدَ فَنَاءِ الشَّوَاهِدِ وَسُقُوطِهَا ". لَهُ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ تَسَامُحٌ، وَأَرْبَابُ هَذَا الشَّأْنِ هَمُّهُمُ الْمَعَانِي، فَهُمْ يُسَامِحُونَ فِي الْعِبَارَاتِ مَا لَا يُسَامَحُ فِيهِ غَيْرُهُمْ. فَالْبَقَاءُ: هُوَ الدَّوَامُ وَاسْتِمْرَارُ الْوُجُودِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: مُقَيَّدٌ وَمُطْلَقٌ، فَالْمُقَيَّدُ: الْبَقَاءُ إِلَى مُدَّةٍ، وَالْمُطْلَقُ: الدَّائِمُ الْمُسْتَمِرُّ لَا إِلَى غَايَةٍ. وَ " الْبَقَاءُ " أَوْضَحُ مِنْ هَذَا الْحَدِّ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مُرَادُهُ " الْبَقَاءَ " الَّذِي هُوَ صِفَةُ الْعَبْدِ وَمَقَامُهُ، قَالَ: " هُوَ اسْمٌ لِمَا بَقِيَ بَعْدَ فَنَاءِ الشَّوَاهِدِ "، وَهَذَا عَامٌّ فِي سَائِرِ أَنْوَاعِ مَا بَقِيَ الْعَبْدُ مُتَّصِفًا بِهِ بَعْدَ فَنَاءِ الْأَدِلَّةِ وَالْآثَارِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَ " الشَّوَاهِدُ " عِنْدَهُ هِيَ الرُّسُومُ كُلُّهَا، وَرُبَّمَا يُرَادُ بِهَا مَعَالِمُ الشُّهُودِ، وَهُوَ الَّذِي عَنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا جُعِلَتِ الشَّوَاهِدُ هَاهُنَا مَعَالِمَ الشُّهُودِ، كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ الْمَعَالِمَ تُوصِلُ إِلَى الشُّهُودِ، وَيَبْقَى الشُّهُودُ قَائِمًا بَعْدَ فَنَاءِ مَعَالِمِهِ. وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ يُفْنِيهِمْ عَمَّا سِوَاهُ وَيُبْقِيهِمْ بِهِ، وَمَا سِوَاهُ هُوَ الْمَعَالِمُ وَالرُّسُومُ.
قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ دَرَجَاتُ الْبَقَاءِ: بَقَاءُ الْمَعْلُومِ بَعْدَ سُقُوطِ الْعِلْمِ عَيْنًا لَا عِلْمًا، وَبَقَاءُ الْمَشْهُودِ بَعْدَ سُقُوطِ الشُّهُودِ وُجُودًا لَا نَعْتًا، وَبَقَاءُ مَا لَمْ يَزَلْ حَقًّا بِإِسْقَاطِ مَا لَمْ يَكُنْ مَحْوًا. قُلْتُ: أَمَّا بَقَاءُ الْمَعْلُومِ بَعْدَ سُقُوطِ الْعِلْمِ، فَقَدْ يَظْهَرُ فِي بَادِئِ الْأَمْرِ امْتِنَاعُهُ، إِذْ كَوْنُهُ مَعْلُومًا- مَعَ سُقُوطِ الْعِلْمِ بِهِ- جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَكَأَنَّهُ مَعْلُومٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَإِنَّ الْمَعْلُومَ لَا يَكُونُ مَعْلُومًا إِلَّا بِالْعِلْمِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَعْلُومًا مَعَ سُقُوطِهِ؟ وَجَوَابُ هَذَا، أَنَّ هُنَا أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وُجُودُ صُورَةِ الْمَعْلُومِ فِي قَلْبِ الْعَالِمِ، وَإِدْرَاكُهُ لَهَا وَشُعُورُهُ بِهَا. وَالثَّانِي: عِلْمُهُ بِعِلْمِهِ وَشُعُورِهِ، وَهُوَ أَمْرٌ وَرَاءَ حُضُورِ تِلْكَ الصُّورَةِ، وَهَذَا فِي سَائِرِ الْمَدَارِكِ، فَقَدْ يَرَى الرَّائِي الشَّيْءَ وَيَسْمَعُهُ وَيَشَمُّهُ، وَيَغِيبُ عَنْ عِلْمِهِ وَشُعُورِهِ بِصِفَةِ نَفْسِهِ الَّتِي هِيَ إِدْرَاكُهُ، فَيَغِيبُ بِمُدْرَكِهِ عَنْ إِدْرَاكِهِ، وَبِمَعْلُومِهِ عَنْ عِلْمِهِ وَبِمَرْئِيهِ عَنْ رُؤْيَتِهِ، فَإِنْ قُلْتَ: أَوْضِحْ لِي هَذَا لِيَنْجَلِيَ فَهْمُهُ. فَاعْلَمْ أَنَّ هَاهُنَا قُوَّةً مُدْرِكَةً لَهُ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِهِ صَارَ مَعْلُومًا مُدْرَكًا، فَتَوَلَّدَ مِنْ بَيْنِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ حَالَةٌ ثَالِثَةٌ، تُسَمَّى " الشُّعُورَ " وَ " الْعِلْمَ " وَ " الْإِدْرَاكَ ". مِثَالُ ذَلِكَ: مَا يُدْرِكُهُ بِحَاسَّةِ الذَّوْقِ وَالشَّمِّ، فَإِنَّهُ لَابُدَّ مِنْ وُجُودِ الْمُدْرَكِ الْمَذُوقِ الْمَشْمُومِ، وَلَابُدَّ مِنْ قُوَّةٍ فِي الْآلَةِ وَالْمَحَلِّ الْمَخْصُوصِ، تُقَابِلُ الْمُدْرَكَ، وَتَتَعَلَّقُ بِهِ، فَيَتَوَلَّدُ مِنْ بَيْنِ الْأَمْرَيْنِ كَيْفِيَّةُ الشَّمِّ وَالذَّوْقِ، وَكَذَلِكَ فِي الْمَلْمُوسِ وَالْمَسْمُوعِ وَالْمَرْئِيِّ، فَتَمَامُ الْإِدْرَاكِ أَنْ يُحِيطَ عِلْمًا بِهَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، فَيَشْعُرُ بِالْمُدْرَكِ، وَبِالْقُوَّةِ الْمُدْرِكَةِ، وَبِحَالَةِ الْإِدْرَاكِ، فَإِذَا اسْتَغْرَقَ الْقَلْبُ فِي شُهُودِهِ الْمَعْلُومَ غَابَ بِهِ عَنْ شُهُودِ الْقُوَّةِ الَّتِي بِهَا يَعْلَمُ، وَعَنْ حَالَةِ الْعِلْمِ، وَمَثَّلَ هَذَا بِرَجُلٍ أَدْرَكَ بِلَمْسِهِ مَا الْتَذَّ بِهِ أَعْظَمَ لَذَّةٍ حَصُلَتْ لَهُ، فَاسْتَغْرَقَتْهُ تِلْكَ اللَّذَّةُ عَمَّا سِوَاهَا، فَأَسْقَطَتْ شُعُورَهُ بِهَا دُونَ وُجُودِهَا، وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ " بَقَاءُ الْمَعْلُومِ بَعْدَ سُقُوطِ الْعِلْمِ عَيَانًا لَا عِلْمًا " فَعَيَانًا حَالٌ مِنَ الْبَقَاءِ لَا مِنَ السُّقُوطِ أَيْ بَقَاؤُهُ وُجُودًا لَا نَعْتًا، فَإِنَّهُ فِي مَرْتَبَةِ الْعِلْمِ بَاقٍ نَعْتًا وَوَصْفًا، وَفِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ بَاقٍ وُجُودًا وَعَيَانًا لَا عِلْمًا مُجَرَّدًا. وَهَذَا وَجْهٌ ثَانٍ فِي كَلَامِهِ أَنَّهُ يَبْقَى وُجُودُهُ وَعَيْنُهُ لَا مُجَرَّدُ الْعِلْمِ بِهِ، فَالْعِلْمُ بِهِ لَمْ يُعْدَمْ، وَلَكِنِ انْتَقَلَ الْعَبْدُ مِنْ وُجُودِ الْعِلْمِ إِلَى وُجُودِ الْمَعْلُومِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ- فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ- " وَبَقَاءُ الْمَشْهُودِ بَعْدَ سُقُوطِ الشُّهُودِ وُجُودًا لَا نَعْتًا " الشُّهُودُ فَوْقَ الْعِلْمِ لِأَنَّهُ عِلْمُ عِيَانٍ، فَيَنْتَقِلُ مِنْ مُجَرَّدِ الشُّهُودِ إِلَى الْوُجُودِ، فَيَبْقَى الْمَشْهُودُ مَوْجُودًا لَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَشْهُودًا، وَمَرْتَبَةُ الْوُجُودِ فَوْقَ مَرْتَبَةِ الشُّهُودِ فَإِنَّ الْوُجُودَ حُصُولٌ ذَاتِيٌّ، وَالشُّهُودُ حُصُولٌ عِلْمِيٌّ، وَإِنْ كَانَ فَوْقَ الْعِلْمِ. قَوْلُهُ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ: " وَبَقَاءُ مَنْ لَمْ يَزَلْ حَقًّا بِإِسْقَاطِ مَا لَمْ يَكُنْ مَحْوًا "، أَيْ يَغْلِبُ عَلَى الْقَلْبِ سُلْطَانُ الْحَقِيقَةِ، وَنُورُ الْجَمْعِ، حَتَّى يَنْطَمِسَ مِنْ قَلْبِهِ أَثَرُ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا يَنْطَمِسُ نُورُ الْكَوَاكِبِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ، وَيَبْقَى فِيهِ تَعْظِيمُ مَنْ لَمْ يَزَلْ وَذِكْرُهُ وَحُبُّهُ، وَالِاشْتِغَالُ بِهِ لَا بِغَيْرِهِ. فَالدَّرَجَةُ الْأُولَى: بَقَاءٌ فِي مَرْتَبَةِ الْعِلْمِ، وَالثَّانِيَةُ: بَقَاءٌ فِي مَرْتَبَةِ الشُّهُودِ، وَالثَّالِثَةُ: بَقَاءٌ فِي مَرْتَبَةِ الْوُجُودِ، فَهَذَا وَجْهٌ. وَيُمْكِنُ شَرْحُ كَلَامِهِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ: أَنَّ الْمَعْلُومَ يُسْقِطُ شُهُودَ الْعِلْمِ، فَالْعِلْمُ يَسْقُطُ وَالْمَعْلُومُ يَثْبُتُ، فَالْعَبْدُ إِذَا بَقِيَ بَعْدَ الْفَنَاءِ سَقَطَ عِلْمُهُ فِي مَشْهَدِ عِيَانِهِ بِحَيْثُ تَبْقَى مَرْتَبَةُ الْعِلْمِ عِيَانًا، فَيَسْقُطُ الْعِلْمُ بِالْعِيَانِ، بِحَيْثُ يَصِيرُ عَيْنًا لَا عِلْمًا، فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى الْعِلْمِ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ- وَهِيَ حَضْرَةُ الْجَمْعِ- سَقَطَ الْعِلْمُ، فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْفَرْقِ لَمْ يَسْقُطْ، فَسُقُوطُهُ فِي حَضْرَةِ الْجَمْعِ، وَثُبُوتُهُ فِي مَقَامِ الْفَرْقِ. قَوْلُهُ: " وَبَقَاءُ الْمَشْهُودِ بَعْدَ سُقُوطِ الشُّهُودِ وُجُودًا "، يَعْنِي: بَقَاءَ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ الْمَشْهُودُ بَعْدَ سُقُوطِ الشُّهُودِ الَّذِي هُوَ الْمَخْلُوقُ: كَانَ الْمَشْهُودُ صِفَةَ الْمُشَاهَدِ، وَالْمَشَاهَدُ وَصِفَاتُهُ مَخْلُوقٌ، وَمَشْهُودُهُ سُبْحَانَهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، كَمَا أَنَّ عِلْمَهُ وَذِكْرَهُ وَمَعْرِفَتَهُ مَخْلُوقَةٌ، وَالْمَعْلُومُ الْمَذْكُورُ الْمَعْرُوفُ سُبْحَانَهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَإِذَا كَانَ الْمَوْصُوفُ قَدْ فَنِيَ، وَصِفَاتُهُ تَابِعَةٌ لَهُ فِي الْفَنَاءِ، فَيَفْنَى شُهُودُهُ وَيَبْقَى مَشْهُودُهُ. قَوْلُهُ " وُجُودًا لَا نَعْتًا " أَيْ سَقَطَ وُجُودُ شُهُودِهِ لَا نَعْتُهُ وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ. قَوْلُهُ " وَبَقَاءُ مَا لَمْ يَزَلْ حَقًّا بِإِسْقَاطِ مَا لَمْ يَكُنْ مَحْوًا " يُوَضِّحُ الْمُرَادَ مِنَ الدَّرَجَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلُ، وَمَعْنَاهُ: بَقَاءُ الْحَقِّ، وَفَنَاءُ الْمَخْلُوقِ، وَالْحَقُّ- سُبْحَانَهُ- لَمْ يَزَلْ بَاقِيًا، فَلَمْ يَتَجَدَّدْ لَهُ الْبَقَاءُ، وَالْفَنَاءُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْمَخْلُوقِ فَنَاؤُهُمْ فِي شُهُودِ الْمُشَاهَدِ، وَمَحْوِ رُسُومِهِمْ مِنْ قَلْبِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، لَا فَنَاؤُهُمْ فِي الْخَارِجِ. وَحَاصِلُ ذَلِكَ: أَنْ يَفْنَى مِنْ قَلْبِكَ إِرَادَةُ السِّوَى: وَشُهُودُهُ وَالِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ، وَيَبْقَى فِيهِ إِرَادَةُ الْحَقِّ وَحْدَهُ، وَشُهُودُهُ وَالِالْتِفَاتُ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَيْهِ، وَالْإِقْبَالُ بِجَمْعِيَّتِكَ عَلَيْهِ، فَحَوْلَ هَذَا يُدَنْدِنُ الْعَارِفُونَ، وَإِلَيْهِ يُشَمِّرُ السَّالِكُونَ، وَإِنْ وَسَّعُوا لَهُ الْعِبَارَاتِ، وَصَرَفُوا إِلَيْهِ الْقَوْلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ:(بَابُ التَّحْقِيقِ) وَعَلَاقَتُهُ بِقَوْلِهِ " وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي "،) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} التَّحْقِيقُ: تَلْخِيصُ مَصْحُوبِكَ مِنَ الْحَقِّ، ثُمَّ بِالْحَقِّ، ثُمَّ فِي الْحَقِّ، وَهَذِهِ أَسْمَاءُ دَرَجَاتِهِ الثَّلَاثِ. وَجْهُ تَعَلُّقِهِ بِإِشَارَةِ الْآيَةِ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طَلَبَ الِانْتِقَالَ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْعِلْمِ بِإِحْيَاءِ اللَّهِ الْمَوْتَى إِلَى رُؤْيَةِ تَحْقِيقِهِ عِيَانًا، فَطَلَبَ- بَعْدَ حُصُولِ الْعِلْمِ الذِّهْنِيِّ- تَحْقِيقَ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ، وَلَمَّا كَانَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعِيَانِ مَنْزِلَةٌ أُخْرَى، قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} وَإِبْرَاهِيمُ لَمْ يَشُكَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَرَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَشُكَّ، وَلَكِنْ أَوْقَعَ اسْمَ " الشَّكِّ " عَلَى الْمَرْتَبَةِ الْعِلْمِيَّةِ بِاعْتِبَارِ التَّفَاوُتِ الَّذِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَرْتَبَةِ الْعِيَانِ فِي الْخَارِجِ، وَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ سُمِّيَ الْعِلْمُ الْيَقِينِيُّ- قَبْلَ مُشَاهَدَةِ مَعْلُومِهِ- ظَنًّا، قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} وقال تَعَالَى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ} وَهَذَا الظَّنُّ عِلْمٌ جَازِمٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ} لَكِنْ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْعِيَانِ فَرْقٌ، وَفِي الْمُسْنَدِ مَرْفُوعًا لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْعِيَانِ وَلِهَذَا لَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ مُوسَى أَنَّهُ قَدْ فُتِنَ قَوْمُهُ، وَأَنَّ السَّامِرِيَّ أَضَلَّهُمْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنَ الْغَضَبِ وَالْكَيْفِيَّةِ وَإِلْقَاءِ الْأَلْوَاحِ مَا حَصَلَ لَهُ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ ذَلِكَ. إِذَا عَرَفَ هَذَا، فَقَوْلُهُ " التَّحْقِيقُ: تَلْخِيصُ مَصْحُوبِكَ مِنَ الْحَقِّ " هَاهُنَا أَرْبَعَةُ أَلْفَاظٍ بِتَفْسِيرِهَا يُفْهَمُ مُرَادُهُ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ-. أَحَدُهَا: لَفْظُ " التَّحْقِيقِ " وَهُوَ تَفْعِيلٌ مِنْ حَقَّقَ الشَّيْءَ تَحْقِيقًا، فَهُوَ مَصْدَرٌ فِعْلُهُ حَقَّقَ الشَّيْءَ، أَيْ أَثْبَتَهُ وَخَلَّصَهُ مِنْ غَيْرِهِ. الثَّانِيَةُ: لَفْظُ " التَّلْخِيصِ " وَمَعْنَاهُ: تَخْلِيصُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِهِ، فَخَلَّصَهُ وَلَخَّصَهُ يَشْتَرِكَانِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَإِنْ كَانَ " التَّلْخِيصُ " أَغْلَبَ مَا فِي الذِّهْنِ وَالتَّخْلِيصُ أَغْلَبَ عَلَى مَا فِي الْخَارِجِ، فَالتَّلْخِيصُ: تَلْخِيصُ الشَّيْءِ فِي الذِّهْنِ، بِحَيْثُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَالتَّخْلِيصُ: إِفْرَادُهُ فِي الْخَارِجِ عَنْ غَيْرِهِ. الثَّالِثُ: " الْمَصْحُوبُ " وَهُوَ مَا يَصْحَبُ الْإِنْسَانَ فِي قَصْدِهِ وَمَعْرِفَتِهِ مِنْ مَعْلُومٍ وَمُرَادٍ. الرَّابِعُ: " الْحَقُّ " وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَمَا كَانَ مُوصِلًا إِلَيْهِ، مُدْنِيًا لِلْعَبْدِ مِنْ رِضَاهُ. إِذَا عُرِفَ هَذَا، فَمَصْحُوبُ الْعَبْدِ مِنَ الْحَقِّ هُوَ مَعْرِفَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ، وَإِرَادَةُ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَمَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَمَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فِي سُلُوكِهِ فَـ " التَّحْقِيقُ " هُوَ تَخْلِيصُهُ مِنَ الْمُفْسِدَاتِ الْقَاطِعَةِ عَنْهُ، الْحَائِلَةِ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ الْمُوصِلِ إِلَيْهِ، وَتَحْصِينُهُ مِنَ الْمُخَالَطَاتِ، وَتَخْلِيصُهُ مِنَ الْمُشَوِّشَاتِ، فَإِنَّ تِلْكَ قَوَاطِعُ لَهُ عَنْ مَصْحُوبِهِ الْحَقِّ، وَهِيَ نَوْعَانِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا: عَوَارِضُ مَحْبُوبَةٌ، وَعَوَارِضُ مَكْرُوهَةٌ. فَصَاحِبُ مَقَامِ التَّحْقِيقِ لَا يَقِفُ مَعَ الْعَوَارِضِ الْمَحْبُوبَةِ، فَإِنَّهَا تَقْطَعُهُ عَنْ مَصْحُوبِهِ وَمَحْبُوبِهِ، وَلَا مَعَ الْعَوَارِضِ الْمَكْرُوهَةِ، فَإِنَّهَا قَوَاطِعُ أَيْضًا، وَيَتَغَافَلُ عَنْهَا مَا أَمْكَنَهُ، فَإِنَّهَا تَمُرُّ بِالْمُكَاثَرَةِ وَالتَّغَافُلِ مَرًّا سَرِيعًا، لَا يُوَسِّعُ دَوَائِرَهَا، فَإِنَّهُ كُلَمَّا وَسَّعَهَا اتَّسَعَتْ، وَوَجَدَتْ مَجَالًا فَسِيحًا، فَصَالَتْ فِيهِ وَجَالَتْ، وَلَوْ ضَيَّقَهَا- بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا وَالتَّغَافُلِ- لَاضْمَحَلَّتْ وَتَلَاشَتْ، فَصَاحِبُ مَقَامِ التَّحْقِيقِ يَنْسَاهَا وَيَطْمِسُ آثَارَهَا، وَيَعْلَمُ أَنَّهَا جَاءَتْ بِحُكْمِ الْمَقَادِيرِ فِي دَارِ الْمِحَنِ وَالْآفَاتِ. قَالَ لِي شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- مَرَّةً: الْعَوَارِضُ وَالْمِحَنُ هِيَ كَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، فَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّهُ لَابُدَّ مِنْهُمَا لَمْ يَغْضَبْ لِوُرُودِهِمَا، وَلَمْ يَغْتَمَّ لِذَلِكَ وَلَمْ يَحْزَنْ. فَإِذَا صَبَرَ الْعَبْدُ عَلَى هَذِهِ الْعَوَارِضِ وَلَمْ يَنْقَطِعْ بِهَا؛ رَجَا لَهُ أَنْ يَصِلَ إِلَى مَقَامِ التَّحْقِيقِ، فَيَبْقَى مَعَ مَصْحُوبِهِ الْحَقِّ وَحْدَهُ، فَتَهَذَّبُ نَفْسُهُ، وَتَطْمَئِنُّ مَعَ اللَّهِ، وَتَنْفَطِمُ عَنْ عَوَائِدِ السُّوءِ، حَتَّى تَغْمُرَ مَحَبَّةُ اللَّهِ قَلْبَهُ وَرُوحَهُ، وَتَعُودُ جَوَارِحُهُ مُتَابِعَةً لِلْأَوَامِرِ، فَيُحِسُّ قَلْبُهُ حِينَئِذٍ بِأَنَّ مَعِيَّةَ اللَّهِ مَعَهُ وَتَوَلِّيهِ لَهُ، فَيَبْقَى فِي حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ بِاللَّهِ لَا بِنَفْسِهِ، وَتَرِدُ عَلَى قَلْبِهِ التَّعْرِيفَاتُ الْإِلَهِيَّةُ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي مَنْزِلِ الْبَقَاءِ بَعْدَ الْفَنَاءِ، وَالظَّفَرِ بِالْمَحَبَّةِ الْخَاصَّةِ، وَيَشْهَدُ الْإِلَهِيَّةَ وَالْقَيُّومِيَّةَ وَالْفَرْدَانِيَّةَ، فَإِنَّ عَلَى هَذِهِ الْمَشَاهِدِ الثَّلَاثَةِ مَدَارُ الْمَعْرِفَةِ وَالْوُصُولِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ صَاحِبَ مَقَامِ " التَّحْقِيقِ " مَزَايَا صَاحِبِ مَقَامِ التَّحْقِيقِ يَعْرِفُ الْحَقَّ، وَيُمَيِّزُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَاطِلِ، فَيُمْسِكُ بِالْحَقِّ، وَيُلْغِي الْبَاطِلَ، فَهَذِهِ مَرْتَبَةٌ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِهِ، بَلْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ؛ فَيَبْرَأُ حِينَئِذٍ مِنْ حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ بِالْحَقِّ، ثُمَّ يَتَمَكَّنُ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، وَيَرْسَخُ فِيهِ قَلْبُهُ، فَيَصِيرُ تَحْقِيقُهُ بِاللَّهِ وَفِي اللَّهِ. فَفِي الْأَوَّلِ: يَخْلُصُ لَهُ مَطْلُوبُهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَيَتَجَرَّدُ لَهُ مِنْ سِوَاهُ. وَفِي الثَّانِي: يَخْلُصُ لَهُ إِضَافَتُهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَنْ يَكُونَ سِوَاهُ سُبْحَانَهُ. وَفِي الثَّالِثِ: تَجَرَّدَ لَهُ شُهُودُهُ وَقُصُورُهُ، بِحَيْثُ صَارَتْ فِي مَطْلُوبِهِ. فَالْأَوَّلُ: سَفَرٌ إِلَى اللَّهِ، وَالثَّانِي: سَفَرٌ بِاللَّهِ، وَالثَّالِثُ: سَفَرٌ فِي اللَّهِ. وَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْكَ مَعْنَى السَّفَرِ فِيهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّفَرِ إِلَيْهِ فَفَرِّقْ بَيْنَ حَالِ الْعَابِدِ الزَّاهِدِ السَّائِرِ إِلَى اللَّهِ، الَّذِي لَمْ يُفْتَحْ لَهُ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالْمَعْرِفَةِ الْخَاصَّةِ، وَبَيْنَ حَالِ الْعَارِفِ الَّذِي قَدْ كُشِفَ لَهُ فِي مَعْرِفَةِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالْفِقْهِ فِيهَا مَا حُجِبَ عَنْ غَيْرِهِ. قَوْلُهُ: " أَمَّا الدَّرَجَةُ الْأُولَى- وَهِيَ تَخْلِيصُ مَصْحُوبِكَ مِنَ الْحَقِّ-: فَأَنْ لَا يُخَالِجَ عِلْمُكَ عِلْمَهُ " يَعْنِي: أَنَّكَ كُنْتَ تَنْسُبُ الْعِلْمَ إِلَى نَفْسِكَ قَبْلَ وُصُولِكَ إِلَى مَقَامِ التَّحْقِيقِ فَفِي حَالَةِ التَّحْقِيقِ تَعُودُ نِسْبَتُهُ إِلَى مُعَلِّمِهِ وَمُعْطِيهِ الْحَقِّ، وَلَعَلَّ هَذَا مَعْنَى قَوْلِ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، إِذْ جَمَعَهُمُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَقَالَ: {مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا} قِيلَ: قَالُوهُ تَأَدُبًا مَعَهُ سُبْحَانَهُ، إِذْ رَدُّوا الْعِلْمَ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا عِلْمَ لَنَا بِحَقِيقَةِ الْبَاطِنِ، وَإِنَّمَا أَجَابَنَا مَنْ أَجَابَنَا ظَاهِرًا، وَالْبَاطِنُ غَيْبٌ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. وَالتَّحْقِيقُ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ- أَنَّ عُلُومَهُمْ تَلَاشَتْ فِي عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ وَاضْمَحَلَّتْ، فَصَارَتْ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ كَلَا عِلْمٍ، فَرَدُّوا الْعِلْمَ كُلَّهُ إِلَى وَلِيِّهِ وَأَهْلِهِ، وَمَنْ هُوَ أَوْلَى بِهِ، فَعُلُومُهُمْ وَعُلُومُ الْخَلَائِقِ جَمِيعِهِمْ فِي جَنْبِ عِلْمِهِ تَعَالَى كَنَقْرَةِ عُصْفُورٍ فِي بَحْرٍ مِنْ بِحَارِ الْعَالَمِ، وَ " الْمُخَالَجَةُ " الْمُنَازَعَةُ. قَوْلُهُ: " وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: فَأَنْ لَا يُنَازِعَ شُهُودُكَ شُهُودَهُ، هَذَا قَرِيبٌ مِنَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الشُّهُودَ الَّذِي كُنْتَ تَنْسُبُهُ إِلَى نَفْسِكَ قَبْلَ الْفَنَاءِ تَصِيرُ بَعْدُ تَنْسُبُهُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، لَا إِلَيْكَ. قَوْلُهُ " الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يُنَاسِمَ رَسْمُكَ سَبْقَهُ " الرَّسْمُ عِنْدَهُمْ: هُوَ الشَّخْصُ وَهُوَ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ، وَالرَّبُّ تَعَالَى هُوَ الْقَدِيمُ الْخَالِقُ، فَإِذَا تَحَقَّقَ الْعَبْدُ بِالْحَقِيقَةِ؛ شَهِدَ الْحَقَّ وَحْدَهُ مُنْفَرِدًا عَنْ خَلْقِهِ، فَلَمْ يُنَاسِمْ رَسْمُهُ سَبْقَ الْحَقِّ وَأَوَّلِيَّتَهُ، وَالْمُنَاسَمَةُ كَالْمُشَامَّةِ، يُقَالُ: نَاسَمَهُ، أَيْ شَامَّهُ، فَاسْتَعَارَ الشَّيْخُ اللَّفْظَةَ لِأَدْنَى الْمُقَارَبَةِ وَالْمُلَابَسَةِ، أَيْ لَا يُدَانِي رَسْمُكَ سَبْقَهُ، وَلَوْ بِأَدْنَى مُنَاسَمَةٍ، بَلْ تَشْهَدُ الْحَقَّ وَحْدَهُ مُنْفَرِدًا عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ. وَهُمْ يُشِيرُونَ بِذَلِكَ إِلَى أَمْرٍ، وَهُوَ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَانَ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ، وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ، فَأَمَّا اللَّفْظُ الْأَوَّلُ وَهُوَ " كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ " فَهَذَا قَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ الثَّابِتُ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الصَّحِيحِ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ وَلَمْ يَقُلْ: فَلَيْسَ مَعَكَ شَيْءٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ " وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ " فَزِيَادَةٌ فِي الْحَدِيثِ لَيْسَتْ مِنْهُ، بَلْ زَادَهَا بَعْضُ الْمُتَحَذْلِقِينَ، وَهِيَ بَاطِلَةٌ قَطْعًا، فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ خَلْقِهِ بِالْعِلْمِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْقُدْرَةِ، وَمَعَ أَوْلِيَائِهِ بِالْحِفْظِ وَالْكِلَاءَةِ وَالنُّصْرَةِ، وَهُمْ مَعَهُ بِالْمُوَافَقَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَصَارَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ مِجَنًّا وَتُرْسًا لِلْمَلَاحِدَةِ مِنَ الِاتِّحَادِيَّةِ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لَا وُجُودَ سِوَى وُجُودِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا وَحَالًا، فَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ، وَكُلُّ مَا تَرَاهُ وَتَلْمَسُهُ وَتَذُوقُهُ وَتَشُمُّهُ وَتُبَاشِرُهُ فَهُوَ حَقِيقَةُ اللَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ إِفْكِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَأَمَّا أَهْلُ التَّوْحِيدِ: فَقَدْ يُطْلِقُونَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ، وَيُرِيدُونَ بِهَا لَفْظًا صَحِيحًا، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ مُنْفَرِدًا بِنَفْسِهِ عَنْ خَلْقِهِ، لَيْسَ مُخَالِطًا لَهُمْ، وَلَا حَالًّا فِيهِمْ، وَلَا مُمَازِجًا لَهُمْ، بَلْ هُوَ بَائِنٌ عَنْهُمْ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ. وَأَمَّا الشَّيْخُ وَأَرْبَابُ الْفَنَاءِ: فَقَدْ يَعْنُونَ مَعْنًى آخَرَ أَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ " لَا يُنَاسِمُ رَسْمُكَ سَبْقَهُ " أَيْ لَا تَرَى أَنَّكَ مَعَهُ بَلْ تَرَاهُ وَحْدَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: فَتَسْقُطُ الشَّهَادَاتُ، وَتَبْطُلُ الْعِبَارَاتُ، وَتَفْنَى الْإِشَارَاتُ، يَعْنِي: أَنَّكَ إِذَا لَمْ تَشْهَدْ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَأَسْقَطْتَ الْغَيْرَ مِنَ الشُّهُودِ، لَا مِنَ الْوُجُودِ، بِخِلَافِ مَا يَقُولُ الْمُلْحِدُ الِاتِّحَادِيُّ: إِنَّكَ تُسْقِطُ الْغَيْرَ شُهُودًا وَوُجُودًا- سَقَطَتِ الشَّهَادَاتُ وَالْعِبَارَاتُ وَالْإِشَارَاتُ؛ لِأَنَّهَا صِفَاتُ الْعَبْدِ الْمُحْدَثِ الْمَخْلُوقِ، وَالْفَنَاءُ يُوجِبُ إِسْقَاطَهَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْوَاصِلَ إِلَى هَذَا الْمَقَامِ لَا يَرَى مَعَ الْحَقِّ سِوَاهُ، فَيَمْحُوَ السِّوَى فِي شُهُودِهِ، وَعِنْدَ الْمُلْحِدِ يَمْحُوهُ مِنَ الْوُجُودِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَهُوَ الْمُوَفِّقُ.
قَالَ:(بَابُ التَّلْبِيسِ وَبَيَانُ الْمَقْصُودِ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ " وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ "،) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ}، لَيْتَهُ لَمْ يَسْتَشْهِدْ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَإِنَّ الِاسْتِشْهَادَ بِهَا عَلَى مَقْصُودِهِ أَبْعَدُ شَاهِدٍ عَلَيْهِ، وَأَبْطَلُهُ شَهَادَةً، وَلَيْتَهُ لَمْ يُسَمِّ هَذَا الْبَابَ بِالتَّلْبِيسِ وَاخْتَارَ لَهُ اسْمًا أَحْسَنَ مِنْهُ مَوْقِعًا. فَأَمَّا الْآيَةُ: فَإِنَّ مَعْنَاهَا غَيْرُ مَا عُقِدَ لَهُ الْبَابُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا تَعَنُّتًا فِي كُفْرِهِمْ {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} يَعْنُونَ: مَلَكًا نُشَاهِدُهُ وَنَرَاهُ، يَشْهَدُ لَهُ وَيُصَدِّقُهُ، وَإِلَّا فَالْمَلَكُ كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ مِنَ اللَّهِ، فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذَا، وَبَيَّنَ الْحِكْمَةَ فِي عَدَمِ إِنْزَالِ الْمَلَكِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اقْتَرَحُوهُ بِأَنَّهُ لَوْ أَنْزَلَ مَلَكًا- كَمَا اقْتَرَحُوا وَلَمْ يُؤْمِنُوا وَيُصَدِّقُوهُ- لَعُوجِلُوا بِالْعَذَابِ، كَمَا جَرَتْ وَاسْتَمَرَّتْ بِهِ سُنَّتُهُ تَعَالَى مَعَ الْكُفَّارِ فِي آيَاتِ الِاقْتِرَاحِ، إِذَا جَاءَتْهُمْ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا، فَقَالَ: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَوْ أَنْزَلَ مَلَكًا- كَمَا اقْتَرَحُوا- لَمَا حَصَلَ بِهِ مَقْصُودُهُمْ؛ لِأَنَّهُ إِنْ أَنْزَلَهُ فِي صُورَتِهِ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى التَّلَقِّي عَنْهُ، إِذِ الْبَشَرُ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى مُخَاطَبَةِ الْمَلَكِ وَمُبَاشَرَتِهِ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-- وَهُوَ أَقْوَى الْخَلْقِ- إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْمَلَكُ كَرَبَ لِذَلِكَ، وَأَخَذَهُ الْبُرَحَاءُ، وَتَحَدَّرَ مِنْهُ الْعَرَقُ فِي الْيَوْمِ الشَّاتِي، وَإِنْ جَعَلَهُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ؛ حَصَلَ لَهُمْ لَبْسٌ؛ هَلْ هُوَ رَجُلٌ، أَمْ مَلَكٌ؟ فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ} فِي هَذِهِ الْحَالِ {مَا يَلْبِسُونَ} عَلَى أَنْفُسِهِمْ حِينَئِذٍ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ- إِذَا رَأَوُا الْمَلَكَ فِي صُورَةِ الْإِنْسَانِ- هَذَا إِنْسَانٌ، وَلَيْسَ بِمَلَكٍ، فَهَذَا مَعْنَى الْآيَةِ، فَأَيْنَ تَجِدُهُ مِمَّا عُقِدَ لَهُ الْبَابُ؟
قَالَ: " التَّلْبِيسُ حَقِيقَةُ التَّلْبِيسُ: تَوْرِيَةٌ بِشَاهِدٍ مُعَارٍ عَنْ مَوْجُودٍ قَائِمٍ، لَمَّا كَانَتِ " التَّوْرِيَةُ " إِظْهَارَ خِلَافِ الْمُرَادِ، بِأَنْ يَذْكُرَ شَيْئًا يُوهِمُ أَنَّهُ مُرَادُهُ، وَلَيْسَ هُوَ بِمُرَادِهِ، بَلْ وَرَّى بِالْمَذْكُورِ عَنِ الْمُرَادِ: فُسِّرَ " التَّلْبِيسُ " بِهَا، وَفِي الْحَدِيثِ " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى بِغَيْرِهَا " مِثَالُهُ: أَنْ يُرِيدَ غَزْوَ خَيْبَرَ فَيَقُولُ لِلنَّاسِ: كَيْفَ طَرِيقُ نَجْدٍ، وَمَا بِهَا مِنَ الْمِيَاهِ؟ وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَهَاهُنَا شَيْئَانِ: أَمْرُ سَتْرِ الْمُورِّي الْمُلَبِّسِ، وَأَمْرُ سَتْرِ مَا وَرَّى عَنْهُ، فَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إِلَى الْأَمْرَيْنِ بِقَوْلِهِ " تَوْرِيَةُ شَاهِدٍ مُعَارٍ عَنْ مَوْجُودٍ قَائِمٍ " فَأَمَّا " التَّوْرِيَةُ " فَقَدْ عَرَفْتَهَا، وَأَمَّا " الشَّاهِدُ " فَهُوَ الَّذِي تُوَرِّي بِهِ عَنْ مُرَادِكَ وَتَسْتَشْهِدُ بِهِ، وَأَمَّا " الْمُعَارُ " فَهُوَ الشَّاهِدُ الَّذِي اسْتُعِيرَ لِغَيْرِهِ لِيَشْهَدَ لَهُ، فَهُوَ شَاهِدٌ اسْتُعِيرَ لِمَشْهُودٍ قَائِمٍ، فَالتَّوْرِيَةُ: أَنْ تَذْكُرَ مَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ، وَمَقْصُودُكَ خِلَافُ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْهُمَا، وَالتَّلْبِيسُ: يُشْبِهُ التَّعْمِيَةَ وَالتَّخْلِيطَ، وَمِنْهُ قوله: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الشَّيْخُ: " وَهُوَ اسْمٌ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ، أَوَّلُهَا: تَلْبِيسُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ بِالْكَوْنِ عَلَى أَهْلِ التَّفْرِقَةِ، وَهُوَ تَعْلِيقُهُ الْكَوَائِنَ بِالْأَسْبَابِ وَالْأَمَاكِنِ وَالْأَحَايِينِ، وَتَعْلِيقُهُ الْمَعَارِفَ بِالْوَسَائِطِ، وَالْقَضَايَا بِالْحُجَجِ، وَالْأَحْكَامَ بِالْعِلَلِ، وَالِانْتِقَامَ بِالْجِنَايَاتِ، وَالْمَثُوبَةَ بِالطَّاعَاتِ، وَأَخْفَى الرِّضَا وَالسُّخْطَ اللَّذَيْنِ يُوجِبَانِ الْفَصْلَ وَالْوَصْلَ، وَيُظْهِرَانِ الشَّقَاوَةَ وَالسَّعَادَةَ. شَيْخُ الْإِسْلَامِ حَبِيبُنَا، وَلَكِنِ الْحَقُّ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْهُ، وَكَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَقُولُ: عَمَلُهُ خَيْرٌ مِنْ عِلْمِهِ، وَصَدَقَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-، فَسِيرَتُهُ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَجِهَادِ أَهْلِ الْبِدَعِ لَا يُشَقُّ لَهُ فِيهَا غُبَارٌ، وَلَهُ الْمَقَامَاتُ الْمَشْهُورَةُ فِي نُصْرَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَبَى اللَّهُ أَنْ يَكْسُوَ ثَوْبَ الْعِصْمَةِ لِغَيْرِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقَدْ أَخْطَأَ فِي هَذَا الْبَابِ لَفْظًا وَمَعْنًى. أَمَّا اللَّفْظُ: فَتَسْمِيَتُهُ فِعْلَ اللَّهِ، الَّذِي هُوَ حَقٌّ وَصَوَابٌ وَحِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ، وَحُكْمَهُ الَّذِي هُوَ عَدْلٌ وَإِحْسَانٌ، وَأَمْرَهُ الَّذِي هُوَ دِينُهُ وَشَرْعُهُ " تَلْبِيسًا " فَمَعَاذَ اللَّهِ، ثُمَّ مَعَاذَ اللَّهِ مِنْ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ، وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنَ الرِّضَا بِهَا، وَالْإِقْرَارِ عَلَيْهَا، وَالذَّبِّ عَنْهَا، وَالِانْتِصَارِ لَهَا، وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنَّ هَذَا تَلْبِيسٌ عَلَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ، فَالتَّلْبِيسُ وَقَعَ عَلَيْهِ، وَلَا نَقُولُ: وَقَعَ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ صَادِقٌ لُبِّسَ عَلَيْهِ، وَلَعَلَّ مُتَعَصِّبًا لَهُ يَقُولُ: أَنْتُمْ لَا تَفْهَمُونَ كَلَامَهُ، فَنَحْنُ نُبَيِّنُ مُرَادَهُ عَلَى وَجْهِهِ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ-، ثُمَّ نُتْبِعُ ذَلِكَ بِمَا لَهُ وَعَلَيْهِ. فَقَوْلُهُ " أَوَّلُهَا: تَلْبِيسُ الْحَقِّ بِالْكَوْنِ عَلَى أَهْلِ التَّفْرِقَةِ " وَالْحَقُّ هَاهُنَا الْمُرَادُ بِهِ الرَّبُّ تَعَالَى، وَ " الْكَوْنُ " اسْمٌ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ، وَ " أَهْلُ التَّفْرِقَةِ " ضِدُّ أَهْلِ " الْجَمْعِ "، وَسَيَأْتِي مَعْنَى الْجَمْعِ عِنْدَهُ بَعْدَ هَذَا- إِنْ شَاءَ اللَّهُ-، فَأَهْلُ التَّفْرِقَةِ الَّذِينَ لَمْ يَصِلُوا إِلَى مَقَامِ الْجَمْعِ، فَأَهْلُ التَّفْرِقَةِ عِنْدَهُ لُبِّسَ عَلَيْهِمُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، فَإِنَّهُمْ لُبِّسَ عَلَيْهِمُ الْحَقُّ بِالْكَوْنِ وَهُوَ الْبَاطِلُ، وَكُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهُ بَاطِلٌ، وَأَهْلُ التَّفْرِقَةِ الْمُرَادُ بِهِمْ عِنْدَهُمُ الَّذِينَ غَلَبَ عَلَيْهِمُ النَّظَرُ إِلَى الْأَسْبَابِ حَتَّى غَفَلُوا عَنِ الْمُسَبِّبِ، وَوَقَفُوا مَعَهَا دُونَهُ، وَ " التَّلْبِيسُ " فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَلِذَلِكَ اسْتُدِلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بِالْآيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} لِيُعَرِّفَكَ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَا تُمْنَعُ نِسْبَتُهُ إِلَى اللَّهِ كَمَا لَا تُمْنَعُ نِسْبَةُ الْإِضْلَالِ إِلَيْهِ. وَوَجْهُ هَذَا التَّلْبِيسِ: أَنَّهُ- سُبْحَانَهُ- أَضَافَ الْأَفْعَالَ الصَّادِرَةَ عَنْ مَحْضِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ إِلَى أَسْبَابٍ وَأَزْمِنَةٍ وَأَمْكِنَةٍ، فَلَبَّسَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ عَلَى أَهْلِ التَّفْرِقَةِ حَيْثُ عَلَّقَ الْكَوَائِنَ- وَهِيَ الْأَفْعَالُ- بِالْأَسْبَابِ، فَنَسَبَهَا أَهْلُ التَّفْرِقَةِ إِلَى أَسْبَابِهَا، وَعَمُوا عَنْ رُؤْيَةِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، فَفِي الْحَقِيقَةِ لَا فِعْلَ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَهْلُ التَّفْرِقَةِ يَجْهَلُونَ ذَلِكَ، وَيَقُولُونَ: فَعَلَ فُلَانٌ، وَفَعَلَ الْمَاءُ، وَفَعَلَ الْهَوَاءُ، وَفَعَلَتِ النَّارُ، وَكَذَلِكَ تَعْلِيقُهُ سُبْحَانَهُ الْمَعَارِفَ بِالْوَسَائِطِ، وَهِيَ الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ وَالْفِطْرِيَّةُ، وَتَعْلِيقُهُ الْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصِرَاتِ وَالْمَلْمُوسَاتِ بِآلَاتِهَا وَحَوَاسِّهَا، مِنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالشَّمِّ وَالذَّوْقِ وَاللَّمْسِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْخَالِقُ لِتِلْكَ الْإِدْرَاكَاتِ مُقَارَنَةً لِهَذِهِ الْحَوَاسِّ، وَعِنْدَهَا، لَا بِهَا، وَلَا بِقُوًى مُوَدَعَةٍ فِيهَا، وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ هَذِهِ الْمَعَارِفِ بِغَيْرِ هَذِهِ الْوَسَائِطِ، فَحَجَبَ أَهْلَ التَّفْرِقَةِ، فَهَذِهِ الْوَسَائِطُ عَنْ إِلَهٍ قَادِرٍ سُبْحَانَهُ حَقِيقَةُ الَّذِي لَا فِعْلَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا لَهُ، فَكَأَنَّهُ لَبَّسَ عَلَى أَهْلِ التَّفْرِقَةِ- أَيْ أَضَلَّهُمْ- بِشُهُودِهِمُ الْأَسْبَابَ، وَغَيْبَتِهِمْ بِهَا عَنْهُ. وَكَذَلِكَ الْقَضَايَا- وَهِيَ الْوَقَائِعُ بَيْنَ الْعِبَادِ- غَلَّقَهَا بِالْحُجَجِ الْمُوجِبَةِ لَهَا، فَكُلُّ قَضَاءٍ وَحُكْمٍ لَابُدَّ لَهُ مِنْ حُجَّةٍ يَسْتَنِدُ إِلَيْهَا، فَيَحْجُبُ صَاحِبَ التَّفْرِقَةِ بِتِلْكَ الْحُجَّةِ عَنِ الْمَصْدَرِ الْأَوَّلِ الَّذِي مِنْهُ ابْتِدَاءُ كُلِّ شَيْءٍ، وَيَقِفُ مَعَ الْحُجَّةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى مَنْ حَكَمَ بِهَا، وَجَعَلَهَا مَظْهَرًا لِنُفُوذِ حُكْمِهِ وَقَضَائِهِ. وَكَذَلِكَ تَعْلِيقُهُ الْأَحْكَامَ بِالْعِلَلِ- وَهِيَ الْمَعَانِي وَالْمُنَاسَبَاتُ، وَالْحِكَمُ وَالْمَصَالِحُ- الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا ثَبَتَتِ الْأَحْكَامُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَاضِعُ تِلْكَ الْمَعَانِي، وَمُضِيفُ الْأَحْكَامِ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مُضَافَةٌ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ. وَكَذَلِكَ تَرْتِيبُهُ الِانْتِقَامَ عَلَى الْجِنَايَاتِ، وَرَبْطُهُ الثَّوَابَ بِالطَّاعَاتِ، كُلُّ ذَلِكَ مُضَافٌ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ، لَا إِلَى الْجِنَايَاتِ، وَلَا إِلَى الطَّاعَاتِ، فَإِضَافَةُ ذَلِكَ إِلَيْهَا تَلْبِيسٌ عَلَى أَهْلِ التَّفْرِقَةِ، وَمَوْضِعُ التَّلْبِيسِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ أَهْلَ التَّفْرِقَةِ يَظُنُّونَ أَنَّهُ لَوْلَا تِلْكَ الْوَسَائِطُ لَمَّا وُجِدَتْ مَعْرِفَةٌ، وَلَا وَقَعَتْ قَضِيَّةٌ، وَلَا كَانَ حُكْمٌ وَلَا ثَوَابٌ، وَلَا عِقَابٌ وَلَا انْتِقَامٌ، وَهَذَا تَلْبِيسٌ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ إِنَّمَا أَوْجَبَهَا مَحْضُ مَشِيئَةِ اللَّهِ الَّذِي مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فَانْطَوَى حُكْمُ تِلْكَ الْوَسَائِطِ وَالْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ فِي بِسَاطِ الْمَشِيئَةِ الْأَزَلِيَّةِ، وَاضْمَحَلَّتْ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ الْأَزَلِيِّ، وَصَارَتْ مِنْ جُمْلَةِ الْكَائِنَاتِ الَّتِي هِيَ مُنْفَعِلَةٌ لَا فَاعِلَةٌ، وَمُطِيعَةٌ لَا مُطَاعَةٌ، وَمَأْمُورَةٌ لَا آمِرَةٌ وَخَلَقَ مِنْ خَلْقِهِ، لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، فَهِيَ بِهِ لَا بِهِمْ، وَلِهَذَا عَاذَ الْعَارِفُونَ بِهِ مِنْهُ وَهَرَبُوا مِنْهُ إِلَيْهِ، وَالْتَجَئُوا مِنْهُ إِلَيْهِ، وَفَرُّوا مِنْهُ إِلَيْهِ، وَتَوَكَّلُوا بِهِ عَلَيْهِ، وَخَافُوهُ بِمَا مِنْهُ لَا مِنْ غَيْرِهِ، فَشَهِدُوا أَوَّلِيَّتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَتَفَرُّدَهُ فِي الصُّنْعِ وَأَنَّهُ مَا ثَمَّ مَا يُوجِبُ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا مَشِيئَتُهُ وَحْدَهُ، فَمَشِيئَتُهُ هِيَ السَّبَبُ فِي الْحَقِيقَةِ وَمَا يُشَاهَدُ أَوْ يُعْلَمُ مِنَ الْأَسْبَابِ فَمَحَلٌّ وَمَجْرًى لِنُفُوذِ الْمَشِيئَةِ، لَا أَنَّهُ مُؤَثِّرٌ وَفَاعِلٌ، فَالْوَسَائِطُ لَابُدَّ أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى أَوَّلٍ، لِامْتِنَاعِ التَّسَلْسُلِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ؟ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدَّرَ الْمَقَادِيرَ، وَكَتَبَ الْآثَارَ وَالْأَعْمَالَ، وَالشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ، وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، حَيْثُ لَا وَاسِطَةَ هُنَاكَ وَلَا سَبَبَ وَلَا عِلَّةَ، فَأَهْلُ التَّفْرِقَةِ وَقَفُوا مَعَ الْوَسَائِطِ، وَأَهْلُ الْجَمْعِ نَفِذَ بَصَرُهُمْ مِنَ الْوَسَائِطِ وَالْأَسْبَابِ إِلَى مَنْ أَقَامَهَا وَرَبَطَ بِهَا أَحْكَامَهَا. قَوْلُهُ: " وَأَخْفَى الرِّضَا وَالسُّخْطَ اللَّذَيْنِ هُمَا مَوْضِعُ الْوَصْلِ وَالْفَصْلِ "، يَعْنِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْفَى عَنْ عِبَادِهِ مَا سَبَقَ لَهُمْ عِنْدَهُ مِنْ سُخْطِهِ عَلَى مَنْ سَخِطَ عَلَيْهِ، وَرِضَاهُ عَمَّنْ رَضِيَ عَنْهُ، الْمُوجِبَيْنِ لِوَصْلِ مَنْ وَصَلَهُ، وَقَطْعِ مَنْ قَطْعَهُ. وَمُرَادُهُ: أَنَّ هَذَا مَعَ السَّبَبِ الصَّحِيحِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهُوَ رِضَاهُ وَسُخْطُهُ، وَإِنَّمَا لَبَّسَ سُبْحَانَهُ عَلَى أَهْلِ التَّفْرِقَةِ الْأَمْرَ بِمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْجِنَايَاتِ وَالطَّاعَاتِ، وَالْعِلَلِ وَالْحُجَجِ، وَلَا سَبَبَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا رِضَاهُ وَسُخْطِهِ، وَذَلِكَ لَا عِلَّةَ لَهُ، فَالرِّضَا هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ الْمَثُوبَةَ لَا الطَّاعَةُ، وَالسُّخْطُ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ الْعُقُوبَةَ لَا الْمَعْصِيَةُ، وَالْمَشِيئَةُ هِيَ الَّتِي أَوْجَبَتِ الْحُكْمَ لَا الْوَسَائِطُ، فَأَخْفَى الرَّبُّ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ عَنْ خَلْقِهِ، وَأَظْهَرَ لَهُمْ أَسْبَابًا أُخَرَ عَلَّقُوا بِهَا الْأَحْكَامَ، وَذَلِكَ تَلْبِيسٌ مِنَ الْحَقِّ عَلَيْهِمْ، فَأَهْلُ التَّفْرِقَةِ وَقَفُوا مَعَ هَذَا التَّلْبِيسِ، وَأَهْلُ الْجَمْعِ صَعَدُوا عَنْهُ وَجَاوَزُوهُ إِلَى مَصْدَرِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَمُوجِدِهَا بِمَشِيئَتِهِ فَقَطْ. فَبَالَغَ الشَّيْخُ فِي ذَلِكَ حَتَّى جَعَلَ الرِّضَا وَالسُّخْطَ يُظْهِرَانِ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ، وَلَمْ يَجْعَلِ الرِّضَا وَالسُّخْطَ مُؤَثِّرَيْنِ فِيهِمَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ سَبَقَتْ عِنْدَهُ سَبْقًا مَحْضًا مُسْتَنِدًا إِلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ لَا عِلَّةً لَهُمَا، وَالرِّضَا وَالسُّخْطُ أَظْهَرَا مَا سَبَقَ بِهِ التَّقْدِيرُ مِنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، فَهَذَا أَحْسَنُ مَا يُقَالُ فِي شَرْحِ كَلَامِهِ وَتَقْرِيرِهِ، وَحَمْلِهُ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَأَجْمَلِهَا. وَأَمَّا مَا فِيهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَانْتِهَاءِ الْأُمُورِ إِلَى مَشِيئَةِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ فَذَلِكَ عَقْدُ نِظَامِ الْإِيمَانِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَكْفِي وَحْدَهُ، إِذْ غَايَتُهُ تَحْقِيقُ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي لَا يُنْكِرُهُ عُبَّادُ الْأَصْنَامِ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي أَمْرٍ آخَرَ وَرَاءَ هَذَا؛ هَذَا بَابُهُ، وَالْمَدْخَلُ إِلَيْهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ يُوصَلُ إِلَيْهِ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ الَّذِي دَعَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ، وَنَزَلَتْ بِهِ الْكُتُبُ، وَعَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، وَالشَّرَائِعُ كُلُّهَا تَفَاصِيلُهُ وَحُقُوقُهُ، وَهُوَ تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ، وَهُوَ الَّذِي لَا سَعَادَةَ لِلنُّفُوسِ إِلَّا بِالْقِيَامِ بِهِ- عِلْمًا وَعَمَلًا، وَحَالًا- وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَحْدَهُ أَحَبَّ إِلَى الْعَبْدِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَأَخَوَفَ عِنْدَهُ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَأَرْجَى لَهُ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، فَيَعْبُدُهُ بِمَعَانِي الْحُبِّ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ بِمَا يُحِبُّهُ هُوَ وَيَرْضَاهُ، وَهُوَ مَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، لَا بِمَا يُرِيدُ الْعَبْدُ وَيَهْوَاهُ، وَتَلْخِيصُ ذَلِكَ فِي كَلِمَتَيْنِ " إِيَّاكَ أُرِيدُ بِمَا تُرِيدُ " فَالْأُولَى: تَوْحِيدٌ وَإِخْلَاصٌ، وَالثَّانِيَةُ: اتِّبَاعٌ لِلسُّنَّةِ وَتَحْكِيمٌ لِلْأَمْرِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ غَايَتُهُ تَقْرِيرُ تَوْحِيدِ الْأَفْعَالِ، وَهُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ. وَأَمَّا جَعْلُهُ مَا نَصَبَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، وَأَحْكَامِهِ، وَثَوَابِهِ، وَعِقَابِهِ تَلْبِيسًا، فَتَلْبِيسٌ مِنَ النَّفْسِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ- عِنْدَ الْعَارِفِينَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ- مِنَ التَّلْبِيسِ فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَظْهَرُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَحِكْمَتِهِ، وَنِعْمَتِهِ، وَقُدْرَتِهِ وَعَزَّتِهِ، إِذْ ظُهُورُ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَالْأَسْمَاءِ، تَسْتَلْزِمُ مَحَالَّ وَتَعَلُّقَاتٍ تَتَعَلَّقُ بِهَا، وَيَظْهَرُ فِيهَا آثَارُهَا، وَهَذَا أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لِلصِّفَاتِ وَالْأَسْمَاءِ، إِذِ الْعِلْمُ لَابُدَّ لَهُ مِنْ مَعْلُومٍ، وَصِفَةُ الْخَالِقِيَّةِ، وَالرَّازِقِيَّةِ، تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ مَخْلُوقٍ وَمَرْزُوقٍ، وَكَذَلِكَ صِفَةُ الرَّحْمَةِ، وَالْإِحْسَانِ، وَالْحِلْمِ، وَالْعَفْوِ، وَالْمَغْفِرَةِ، وَالتَّجَاوُزِ- تَسْتَلْزِمُ، فَكَيْفَ يَكُونُ تَعْلِيقُ الْأَحْكَامِ، وَالثَّوَابِ، وَالْعِقَابِ بِهَا تَلْبِيسًا؟ وَهَلْ ذَلِكَ مَحَالُّ تَتَعَلَّقُ بِهَا، وَيَظْهَرُ فِيهَا آثَارُهَا، فَالْأَسْبَابُ وَالْوَسَائِطُ، مَظْهَرُ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، إِلَّا حِكْمَةً بَالِغَةً بَاهِرَةً، وَآيَاتٍ ظَاهِرَةً، وَشَوَاهِدَ نَاطِقَةً بِرُبُوبِيَّةِ مُنْشِئِهَا، وَكَمَالِهِ، وَثُبُوتِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ؟ فَإِنَّ الْكَوْنَ- كَمَا هُوَ مَحَلُّ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، وَمَظْهَرُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ- فَهُوَ بِجَمِيعِ مَا فِيهِ شَوَاهِدُ وَأَدِلَّةٌ وَآيَاتٌ، دَعَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ إِلَى النَّظَرِ فِيهَا، وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى وُجُودِ الْخَالِقِ، وَالِاعْتِبَارِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ عَلَى عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَبِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْعُقُوبَاتِ عَلَى عَدْلِهِ، وَأَنَّهُ يَغْضَبُ وَيَسْخَطُ، وَيَكْرَهُ وَيَمْقُتُ، وَبِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْمَثُوبَاتِ وَالْإِكْرَامِ عَلَى أَنَّهُ يُحِبُّ، وَيَرْضَى وَيَفْرَحُ، فَالْكَوْنُ- بِجُمْلَةِ مَا فِيهِ- آيَاتٌ وَشَوَاهِدُ وَأَدِلَّةٌ، لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ مِنْهَا شَيْئًا تَلْبِيسًا، وَلَا وَسَّطَهُ عَبَثًا، وَلَا خَلَقَهُ سُدًى. فَالْأَسْبَابُ وَالْوَسَائِطُ وَالْعِلَلُ مَحَلُّ ادِّكَارِ الْمُتَفَكِّرِينَ، وَاعْتِبَارِ النَّاظِرِينَ، وَمَعَارِفِ الْمُسْتَدِلِّينَ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} وَكَمْ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْحَثِّ عَلَى النَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ بِهَا، وَالتَّفَكُّرِ فِيهَا، وَذَمِّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا، وَالْإِخْبَارِ بِأَنَّ النَّظَرَ فِيهَا وَالِاسْتِدْلَالَ، يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْمَعْرِفَةَ بِصِدْقِ رُسُلِهِ؛ فَهُوَ آيَاتٌ كَوْنِيَّةٌ مُشَاهَدَةٌ تُصَدِّقُ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ؟!!. فَمَا عَلَّقَ بِهَا آثَارَهَا سُدًى، وَلَا رَتَّبَ عَلَيْهَا مُقْتَضَيَاتِهَا وَأَحْكَامَهَا بَاطِلًا، وَلَا جَعَلَ تَوْسِيطَهَا تَلْبِيسًا الْبَتَّةَ، بَلْ ذَلِكَ مُوجَبُ كَمَالِهِ وَكَمَالِ نُعُوتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَبِهَا عُرِفَتْ رُبُوبِيَّتُهُ وَإِلَهِيَّتُهُ، وَمُلْكُهُ وَصِفَاتُهُ وَأَسْمَاؤُهُ. هَذَا وَلَمْ يَخْلُقْهَا سُبْحَانَهُ عَنْ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَيْهَا، وَلَا تَوَقُّفًا لِكَمَالِهِ الْمُقَدَّسِ عَلَيْهَا، فَلَمْ يَتَكَثَّرْ بِهَا مِنْ قِلَّةٍ، وَلَمْ يَتَعَزَّزْ بِهَا مِنْ ذِلَّةٍ، بَلِ اقْتَضَى كَمَالُهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ، وَيَأْمُرَ وَيَتَصَرَّفَ وَيُدَبِّرَ كَمَا يَشَاءُ، وَأَنْ يُحْمَدَ وَيُعْرَفَ، وَيُذْكَرَ وَيُعْبَدَ، وَيَعْرِفَ الْخَلْقُ صِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتَ جَلَالِهِ، وَلِذَلِكَ خَلَقَ خَلْقًا يَعْصُونَهُ وَيُخَالِفُونَ أَمْرَهُ، لِتَعْرِفَ مَلَائِكَتُهُ وَأَنْبِيَاؤُهُ وَرُسُلُهُ، وَأَوْلِيَاؤُهُ كَمَالَ مَغْفِرَتِهِ، وَعَفْوِهِ، وَحِلْمِهِ وَإِمْهَالِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ بِقُلُوبِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَيْهِ، فَظَهَرَ كَرَمُهُ فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِ، وَبِرِّهِ وَلُطْفِهِ فِي الْعَوْدِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَ فَيُغْفَرُ لَهُمْ فَلِمَنْ كَانَتْ تَكُونُ مَغْفِرَتُهُ لَوْ لَمْ يَخْلُقِ الْأَسْبَابَ الَّتِي يَعْفُو عَنْهَا وَيَغْفِرُهَا؟ وَالْعَبْدَ الَّذِي لَهُ يَغْفِرُ؟ فَخَلْقُ الْعَبْدِ الْمَغْفُورِ لَهُ، وَتَقْدِيرُ الذَّنْبِ الَّذِي يُغْفَرُ، وَالتَّوْبَةُ الَّتِي يَغْفِرُ بِهَا هُوَ نَفْسُ مُقْتَضَى الْعِزَّةِ وَالْحِكْمَةِ، وَمُوجَبُ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَالصِّفَاتِ الْعُلَا- لَيْسَ مِنَ التَّلْبِيسِ فِي شَيْءٍ، فَتَعْلِيقُ الْكَوَائِنِ بِالْأَسْبَابِ كَتَعْلِيقِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ بِالْأَسْبَابِ، وَلِهَذَا سَوَّى صَاحِبُ الْمَنَازِلِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ مَحْضُ الْحِكْمَةِ وَمُوجَبُ الْكَمَالِ الْإِلَهِيِّ، وَمُقْتَضَى الْحَمْدِ التَّامِّ، وَمَظْهَرُ صِفَةِ الْعِزَّةِ، وَالْقُدْرَةِ وَالْمُلْكِ، وَالشَّرَائِعُ كُلُّهَا- مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا- مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ بِالْعِلَلِ، وَالْقَضَايَا بِالْحُجَجِ، وَالثَّوَابِ بِالطَّاعَةِ، وَالْعُقُوبَاتِ بِالْجَرَائِمِ، فَهَلْ يُقَالُ: إِنَّ الشَّرَائِعَ كُلَّهَا تَلْبِيسٌ، بِأَيِّ مَعْنًى فُسِّرَ التَّلْبِيسُ؟ وَلَعَمْرُ اللَّهِ، لَقَدْ كَانَ فِي غُنْيَةٍ عَنْ هَذَا الْبَابِ، وَعَنْ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ، وَلَقَدْ أَفْسَدَ الْكِتَابَ بِذَلِكَ. هَذَا وَلَا يُجْهَلُ مَحَلُّ الرَّجُلِ مِنَ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ، وَطَرِيقِ السُّلُوكِ، وَآفَتِهِ وَعِلَلِهِ وَلَكِنْ قَصْدُهُ تَجْرِيدَ تَوْحِيدِ الْأَفْعَالِ وَالرُّبُوبِيَّةِ قَادَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِ اعْتِقَادُهُ أَنَّ الْفَنَاءَ فِي هَذَا التَّوْحِيدِ هُوَ غَايَةُ السُّلُوكِ، وَنِهَايَةُ الْعَارِفِينَ، وَسَاعَدَهُ اعْتِقَادُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى السُّنَّةِ، الرَّادِّينَ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ فِي الْأَسْبَابِ أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهَا الْبَتَّةَ، وَلَا فِيهَا قُوًى، وَلَا يَفْعَلُ اللَّهُ شَيْئًا بِشَيْءٍ وَلَا شَيْئًا لِشَيْءٍ، فَيُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ فِي أَفْعَالِهِ بَاءُ سَبَبِيَّةٍ، أَوْ لَامُ تَعْلِيلٍ، وَمَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ حَمَلُوا الْبَاءَ فِيهِ عَلَى بَاءِ الْمُصَاحَبَةِ، وَاللَّامَ فِيهِ عَلَى لَامِ الْعَاقِبَةِ، وَقَالُوا: يَفْعَلُ اللَّهُ الْإِحْرَاقَ وَالْإِغْرَاقَ وَالْإِزْهَاقَ عِنْدَ مُلَاقَاةِ النَّارِ، وَالْمَاءِ وَالْحَدِيدِ، لَا بِهِمَا، وَلَا بِقُوًى فِيهِمَا، وَلَا فَرْقَ- فِي نَفْسِ الْأَمْرِ- بَيْنَ النَّارِ وَبَيْنَ الْهَوَاءِ وَالتُّرَابِ وَالْخَشَبِ، وَانْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِفَاعِلٍ أَصْلًا، وَإِنَّمَا هُوَ مُنْفَعِلٌ مَحْضٌ، وَمَحَلُّ جَرَيَانِ تَصَارِيفِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْفَاعِلَ فِيهِ سِوَاهُ، وَالْمُحَرِّكَ لَهُ غَيْرُهُ، وَإِذَا قِيلَ: إِنَّهُ فَاعِلٌ أَوْ مُتَحَرِّكٌ، فَهُوَ تَلْبِيسٌ. فَهَذِهِ الْأُصُولُ: أَوْجَبَتْ هَذَا التَّلْبِيسَ عَلَى نُفَاةِ الْحِكَمِ وَالْأَسْبَابِ، وَقَابَلَهُمْ آخَرُونَ، فَمَزَّقُوا لُحُومَهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَفَرَّقُوا أَدِيمَهُمْ، وَقَالُوا: عَطَّلْتُمُ الشَّرَائِعَ، وَالثَّوَابَ، وَالْعِقَابَ، وَأَبْطَلْتُمْ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَإِنَّ مَبْنَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَ فَاعِلُونَ حَقِيقَةً، وَأَنَّ أَفْعَالَهُمْ مَنْسُوبَةٌ إِلَيْهِمْ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَأَنَّ قُدَرَهُمْ وَإِرَادَتِهِمْ وَدَوَاعِيَهُمْ مُؤَثِّرَةٌ فِي أَفْعَالِهِمْ، وَأَفْعَالُهُمْ وَاقِعَةٌ بِحَسَبِ دَوَاعِيهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ، عَلَى ذَلِكَ قَامَتِ الشَّرَائِعُ وَالنُّبُوَّاتُ، وَالثَّوَابُ، وَالْعِقَابُ، وَالْحُدُودُ، وَالزَّوَاجِرُ، فِطْرَةُ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا وَالْحَيَوَانَ، وَسَوَّيْتُمْ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَا سَوَّى بَيْنَ حَرَكَةِ الْمُخْتَارِ وَحَرَكَةِ مَنْ تَحَرَّكَ قَسْرًا بِغَيْرِ إِرَادَةٍ مِنْهُ أَبَدًا، وَلَا سَوَّى بَيْنَ حَرَكَاتِ الْأَشْجَارِ، وَحَرَكَاتِ ابْنِ آدَمَ، وَلَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَفْعَالَ عِبَادِهِ وَطَاعَتَهُمْ وَمَعَاصِيَهُمْ أَفْعَالًا لَهُ، بَلْ نَسَبَهَا إِلَيْهِ حَقِيقَةً، وَأَخْبَرَ: أَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُمْ فَاعِلِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} وقال: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} وقال سَادَاتُ الْعَارِفِينَ بِهِ {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} وقال إِبْرَاهِيمُ خَلِيلِهِ {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ} فَهُوَ الَّذِي جَعَلَ الْعَبْدَ كَذَلِكَ، وَالْعَبْدُ هُوَ الَّذِي صَلَّى وَصَامَ وَأَسْلَمَ، وَهُوَ الْفَاعِلُ حَقِيقَةً، يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَاعِلًا، وَهُوَ السَّائِرُ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} فَهَذَا فِعْلُهُ، وَالسَّيْرُ فِعْلُهُمْ، وَالْإِقَامَةُ فِعْلُهُ، وَالْقِيَامُ فِعْلُهُمْ، وَالْإِنْطَاقُ فِعْلُهُ، وَالنُّطْقُ فِعْلُهُمْ، فَكَيْفَ تُجْعَلُ نِسْبَةُ الْأَفْعَالِ إِلَى مَحَالِّهَا الْقَائِمَةِ بِهَا، وَأَسْبَابِهَا الْمُظْهِرَةِ لَهَا: تَلْبِيسًا؟ وَمَعْلُومٌ: أَنَّ طَيَّ بِسَاطِ الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ: تَعْطِيلٌ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالشَّرَائِعِ وَالْحِكَمِ، وَأَمَّا الْوُقُوفُ مَعَ الْأَسْبَابِ، وَاعْتِقَادُ تَأْثِيرِهَا: فَلَا نَعْلَمُ مِنْ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا مُسْتَقِلَّةٌ بِأَنْفُسِهَا، حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى نَفْيِ هَذَا الْمَذْهَبِ، وَإِنَّمَا قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ- وَهُمُ الْقَدَرِيَّةُ-: إِنَّ أَفْعَالَ الْحَيَوَانِ خَاصَّةً غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ لِلَّهِ، وَلَا وَاقِعَةٍ بِمَشِيئَتِهِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ أَطْبَقَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَأَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ عَلَى ذَمِّهِمْ وَتَبْدِيعِهِمْ وَتَضْلِيلِهِمْ، وَبَيَّنَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ أَنَّهُمْ أَشْبَاهُ الْمَجُوسِ، وَأَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ الْعُقُولَ وَالْفِطَرَ وَنُصُوصَ الْوَحْيِ، فَالتَّلْبِيسُ فِي الْحَقِيقَةِ حَصَلَ لِهَؤُلَاءِ، وَلِمُنْكِرِي الْأَسْبَابِ فِي الْقُوَى وَالطَّبَائِعِ وَالْحِكَمِ، وَلُبِّسَ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ. وَالْحَقُّ- الَّذِي بَعَثَ بِهِ اللَّهُ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ، وَفَطَرَ عَلَيْهِ عِبَادَهُ، وَأَوْدَعَهُ فِي عُقُولِهِمْ-: بَيْنَ مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، فَالْهُدَى بَيْنَ الضَّلَالَتَيْنِ، وَالِاسْتِقَامَةُ بَيْنَ الِانْحِرَافَيْنِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْقُرْآنَ- بَلْ وَسَائِرَ كُتُبِ اللَّهِ- تَضَمَّنَتْ تَعْلِيقَ الْكَوَائِنِ بِالْأَسْبَابِ وَالْأَمَاكِنِ وَالْأَحَايِينِ، وَتَعْلِيقَ الْمَعَارِفِ بِالْوَسَائِطِ، وَالْقَضَايَا بِالْحُجَجِ وَالْأَحْكَامِ بِالْعِلَلِ، وَالِانْتِقَامَ بِالْجِنَايَاتِ، وَالْمَثُوبَاتِ بِالطَّاعَاتِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا تَلْبِيسًا عَادَ الْوَحْيُ وَالشَّرْعُ وَالْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ تَلْبِيسًا. نَعَمُ، التَّلْبِيسُ عَلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ التَّعْلِيقَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِقْلَالِ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ مُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ، وَنَاصِبِ الْحِكَمِ وَالْعِلَلِ، فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ: أَنَّهُ لَبَّسَ الْأَمْرَ عَلَى هَؤُلَاءِ، فَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى الصَّوَابِ، فَأَبْعَدَ اللَّهُ مَنْ يَنْتَصِرُ لَهُمْ، وَيَذُبُّ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ أَضَلُّ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مَنْ أَثْبَتَ الْأَسْبَابَ وَالْحِكَمَ وَالْعِلَلَ، وَعَلَّقَ بِهَا مَا عَلَّقَهُ اللَّهُ بِهَا مِنَ الْحِكَمِ وَالشَّرْعِ، وَأَنْزَلَهَا بِالْمَحَلِّ الَّذِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ بِهِ، وَوَضَعَهَا حَيْثُ وَضَعَهَا- فَقَدْ لَبَّسَ عَلَيْهِ، فَنَحْنُ نَدِينُ اللَّهَ بِذَلِكَ، وَإِنْ سُمِّيَ تَلْبِيسًا، كَمَا نَدِينُ بِإِثْبَاتِ الْقَدَرِ، وَإِنْ سُمِّيَ جَبْرًا، وَنَدِينُ بِإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ وَحَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ، وَإِنْ سُمِّيَ تَجْسِيمًا، وَنَدِينُ بِإِثْبَاتِ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، وَإِنْ سُمِّيَ تَحَيُّزًا أَوْ جِهَةً، وَنَدِينُ بِإِثْبَاتِ وَجْهِهِ الْأَعْلَى، وَيَدَيْهِ الْمَبْسُوطَتَيْنِ، وَإِنْ سُمِّيَ تَرْكِيبًا، وَنَدِينُ بِحُبِّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَإِنْ سُمِّيَ نَصْبًا، وَنَدِينُ بِأَنَّهُ مُكَلَّمٌ مُتَكَلِّمٌ حَقِيقَةً كَلَامًا يَسْمَعُهُ مَنْ خَاطَبَهُ، وَأَنَّهُ يُرَى بِالْأَبْصَارِ عِيَانًا حَقِيقَةً يَوْمَ لِقَائِهِ، وَإِنْ سُمِّيَ ذَلِكَ تَشْبِيهًا. وَيَا لَلَّهِ الْعَجَبَ! أَلَيْسَتِ الْكَوَائِنُ كُلُّهَا مُتَعَلِّقَةً بِالْأَسْبَابِ؟ أَوَلَيْسَ الرَّبُّ تَعَالَى- كُلَّ وَقْتٍ- يَسُوقُ الْمَقَادِيرَ إِلَى الْمَوَاقِيتِ الَّتِي وَقَّتَهَا لَهَا، وَيُظْهِرُهَا بِأَسْبَابِهَا الَّتِي سَبَّبَهَا لَهَا، وَيَخُصُّهَا بِمَحَالِّهَا مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ الَّتِي عَيَّنَهَا لَهَا؟ أَوَلَيْسَ قَدْ قَدَّرَ اللَّهُ الْمَقَادِيرَ، وَسَبَّبَ الْأَسْبَابَ الَّتِي تَظْهَرُ بِهَا، وَوَقَّتَ الْمَوَاقِيتَ الَّتِي تَنْتَهِي إِلَيْهَا، وَنَصَبَ الْعِلَلَ الَّتِي تُوجَدُ لِأَجْلِهَا، وَجَعَلَ لِلْأَسْبَابِ أَسْبَابًا أُخَرَ تُعَارِضُهَا وَتُدَافِعُهَا؟ فَهَذِهِ تَقْتَضِي آثَارَهَا، وَهَذِهِ تَمْنَعُهَا اقْتِضَاءَهَا، وَتَطْلُبُ ضِدَّ مَا تَطْلُبُهُ تِلْكَ. أَوَلَيْسَ قَدْ رَتَّبَ الْخَلْقَ وَالْأَمْرَ عَلَى ذَلِكَ، وَجَعَلَهُ مَحَلَّ الِامْتِحَانِ وَالِابْتِلَاءِ وَالْعُبُودِيَّةِ؟ أَوَلَيْسَ عِمَارَةُ الدَّارَيْنِ- أَعْنِي الْجَنَّةَ وَالنَّارَ- بِالْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ وَالْحِكَمِ؟ وَلَا حَاجَةَ بِنَا أَنْ نَقُولَ: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الْأَسْبَابَ وَنَصَبَ الْعِلَلَ، فَإِنَّ ذِكْرَ هَذَا مِنْ بَابِ بَيَانِ الْوَاضِحَاتِ الَّتِي لَا يَجْهَلُهَا إِلَّا أَجْهَلُ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَقَلُّهُمْ نَصِيبًا مِنَ الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ. أَوَلَيْسَ الْقُرْآنُ- مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ- قَدْ عُلِّقَتْ أَخْبَارُهُ وَقِصَصُهُ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ، وَأَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ وَزَوَاجِرُهُ، وَثَوَابُهُ وَعِقَابُهُ: بِالْأَسْبَابِ، وَالْحِكَمِ وَالْعِلَلِ؟ وَعُلِّقَتْ فِيهِ الْمَعَارِفُ بِالْوَسَائِطِ، وَالْقَضَايَا بِالْحُجَجِ، وَالْعُقُوبَاتُ وَالْمَثُوبَاتُ بِالْجِنَايَاتِ وَالطَّاعَاتِ؟ أَوَلَيْسَ ذَلِكَ مُقْتَضَى الرِّسَالَةِ، وَمُوجَبَ الْمُلْكِ الْحَقِّ، وَالْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ؟ نَعَمْ، مَرْجِعُ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى الْمَشِيئَةِ الْإِلَهِيَّةِ الْمَقْرُونَةِ بِالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْعَدْلِ، وَالْمَصْلَحَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَوَضْعِ الْأَشْيَاءِ فِي مَوَاضِعِهَا، وَتَنْزِيلِهَا فِي مَنَازِلِهَا، وَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي جَعَلَ لَهَا تِلْكَ الْمَوَاضِعَ وَالْمَنَازِلَ، وَالصِّفَاتِ وَالْمَقَادِيرَ، فَلَا تَلْبِيسَ هُنَاكَ بِوَجْهٍ مَا، وَإِنَّمَا التَّلْبِيسُ فِي إِخْرَاجِ الْأَسْبَابِ عَنْ مَوَاضِعِهَا وَمَوْضُوعِهَا وَإِلْغَائِهَا، أَوْ فِي إِنْزَالِهَا غَيْرَ مَنْزِلَتِهَا، وَالْغَيْبَةِ بِهَا عَنْ مُسَبِّبِهَا وَوَاضِعِهَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
قَالَ: " وَالتَّلْبِيسُ الثَّانِي: تَلْبِيسُ أَهِلِ الْغَيْرَةِ عَلَى الْأَوْقَاتِ بِإِخْفَائِهَا، وَعَلَى الْكَرَامَاتِ بِكِتْمَانِهَا ". إِطْلَاقُ " التَّلْبِيسِ " عَلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ أَوْلَى مِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الدَّرَجَةِ الْأُولَى، فَإِنَّ التَّلْبِيسَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ رَاجِعٌ إِلَى فِعْلِ الْعَبْدِ، وَفِي الْأَوْلَى إِلَى فِعْلِ الرَّبِّ، وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ تَسْمِيَةُ الدَّرَجَةِ الْأُولَى تَلْبِيسًا شَنِيعًا جِدًّا، وَطَّأَ لَهُ بِذِكْرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} أَيْ لَا تَسْتَوْحِشْ مِنْ إِطْلَاقِ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ قَدْ أَطْلَقَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِيهِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْعَبْدَ يَقْوَى إِخْلَاصُهُ لِلَّهِ، وَصِدْقُهُ وَمُعَامَلَتُهُ، حَتَّى لَا يُحِبَّ أَنْ يَطَّلِعَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ عَلَى حَالِهِ مَعَ اللَّهِ وَمَقَامِهِ مَعَهُ، فَهُوَ يُخْفِي أَحْوَالَهُ غَيْرَةً عَلَيْهَا مِنْ أَنْ تَشُوبَهَا شَائِبَةُ الْأَغْيَارِ، وَيُخْفِي أَنْفَاسَهُ خَوْفًا عَلَيْهَا مِنَ الْمُدَاخَلَةِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ إِذَا غَلَبَهُ الْبُكَاءُ، وَعَجَزَ عَنْ دَفْعِهِ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مَا أَمَرَّ الزُّكَامَ! فَالصَّادِقُ إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجْدُ وَالْحَالُ، وَهَاجَ مِنْ قَلْبِهِ لَوَاعِجُ الشَّوْقِ؛ أَخْلَدَ إِلَى السُّكُونِ مَا أَمْكَنَهُ، فَإِنْ غَلَبَ؛ أَظْهَرَ أَلَمًا وَوَجَعًا؛ يَسْتُرُ بِهِ حَالَهُ مَعَ اللَّهِ، كَمَا أَظْهَرَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِقَوْمِهِ أَنَّهُ سَقِيمٌ، حِينَ أَرَادَ أَنْ يُفَارِقَهُمْ، وَيَرْجِعَ بِذَلِكَ الْوَارِدِ وَتِلْكَ الْحَالِ إِلَى الْآلِهَةِ الْبَاطِلَةِ، فَيَجْعَلَهَا جُذَاذًا. فَالصَّادِقُونَ يَعْمَلُونَ فِي كِتْمَانِ الْمَعَانِي، وَاجْتِنَابِ الدَّعَاوِي، فَظَوَاهِرُهُمْ ظَوَاهِرُ النَّاسِ، وَقُلُوبُهُمْ مَعَ الْحَقِّ تَعَالَى، لَا تَلْتَفِتُ عَنْهُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً، فَهُمْ فِي وَادٍ، وَالنَّاسُ فِي وَادٍ. فَقَوْلُهُ: " تَلْبِيسُ أَهِلِ الْغَيْرَةِ عَلَى الْأَوْقَاتِ بِإِخْفَائِهَا "، يَعْنِي: أَنَّهُمْ يَغَارُونَ عَلَى الْأَوْقَاتِ الَّتِي عَمَرَتْ لَهُمْ بِاللَّهِ، وَصَفَتْ لَهُمْ أَنْ يُظْهِرُوهَا لِلنَّاسِ، وَإِنِ اطَّلَعَ غَيْرُهُمْ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِمْ لِكَشْفِهَا وَإِظْهَارِهَا؛ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي طَرِيقِهِمْ فَلَا يَفْزَعُونَ إِلَى الْجَحْدِ وَالْإِنْكَارِ، وَشِكَايَةِ الْحَالِ، بَلْ يَسَعُهُمُ الْإِمْسَاكُ عَنِ الْإِظْهَارِ وَالْجَحْدِ. قَوْلُهُ: " وَعَلَى الْكَرَامَاتِ بِكِتْمَانِهَا "، يَعْنِي: أَنَّهُمْ يَغَارُونَ عَلَى كَرَامَاتِهِمْ أَنْ يَعْلَمَ بِهَا النَّاسُ، فَهُمْ يُخْفُونَهَا أَبَدًا غَيْرَةً عَلَيْهَا، إِلَّا إِذَا كَانَ فِي إِظْهَارِهَا مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ؛ مِنْ حُجَّةٍ أَوْ حَاجَةٍ، فَلَا يُظْهِرُونَهَا إِلَّا لِحُجَّةٍ عَلَى مُبْطِلٍ، أَوْ حَاجَةٍ تَقْتَضِي إِظْهَارَهَا. قَوْلُهُ: " وَالتَّلْبِيسُ بِالْمَكَاسِبِ وَالْأَسْبَابِ مَعْنَاهُ، وَتَعْلِيقُ الظَّوَاهِرِ بِالشَّوَاهِدِ وَالْمَكَاسِبِ تَلْبِيسٌ عَلَى الْعُيُونِ الْكَلِيلَةِ وَالْعُقُولِ الْعَلِيلَةِ "، يَعْنِي: أَنَّ التَّلْبِيـسَ الْمَذْكُـورَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْعُيُونِ الْكَلِيلَةِ، أَيْ أَهْلِ الْإِحْسَاسِ الضَّعِيفِ، وَ " الْعُقُولُ الْعَلِيلَةُ " هِيَ الْمُنْحَرِفَةُ الَّتِي لَا تُدْرِكُ الْحَقَّ لِمَرَضٍ بِهَا. قَوْلُهُ " مَعَ تَصْحِيحِ التَّحْقِيقِ عَقْدًا وَسُلُوكًا وَمُعَايَنَةً " يَعْنِي: أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ يُلْبِسُونَ عَلَى أَهْلِ الْعُيُونِ الْكَلِيلَةِ أَحْوَالَهُمْ وَكَرَامَاتِهِمْ بِسَتْرِهِمْ لَهَا عَنْهُمْ، مَعَ كَوْنِهِمْ قَائِمِينَ بِالتَّحْقِيقِ اعْتِقَادًا وَسُلُوكًا وَمُعَايَنَةً، فَهُمْ مُعْتَقِدُونَ لِلْحَقِّ، سَالِكُونَ الطَّرِيقَ الْمُوصِلَةَ إِلَى الْمَقْصُودِ، أَهْلُ مُرَاقَبَةٍ وَشُهُودٍ. قَوْلُهُ: " وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ: رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى أَهْلِ التَّفْرِقَةِ وَالْأَسْبَابِ فِي مُلَابَسَتِهِمْ ". وَإِنَّمَا كَانُوا رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ ذَاكِرُونَ اللَّهَ بَيْنَ الْغَافِلِينَ، وَفِي وَسَطِهِمْ يَرْحَمُهُمُ اللَّهُ بِهِمْ، فَإِنَّهُمُ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ، الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَهُمْ فِي غَفَلَاتِهِمْ، بَلْ يَقُومُونَ فِيهِمْ بِالنَّصِيحَةِ لَهُمْ، وَالْأَمْرِ لَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالدَّعْوَةِ لَهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَيُرْحَمُونَ بِهِمْ، وَيَنَالُونَ بِهِمْ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَهُمْ يَتَصَرَّفُونَ مَعَ الْخَلْقِ بِحُكْمِ الْعِلْمِ وَالشَّرْعِ، وَأَحْوَالُهُمْ وَمَقَامَاتُهُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ خَاصَّةٌ.
قَوْلُهُ: " التَّلْبِيسُ الثَّالِثُ: تَلْبِيسُ أَهْلِ التَّمْكِينِ عَلَى الْعَالَمِ، تَرَحُّمًا عَلَيْهِمْ بِمُلَابَسَةِ الْأَسْبَابِ، وَتَوَسُّعًا عَلَى الْعَالَمِ، لَا عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَهَذِهِ دَرَجَةُ الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ هِيَ لِلْأَئِمَّةِ الرَّبَّانِيِّينَ، الصَّادِرِينَ عَنْ وَادِي الْجَمْعِ، الْمُشِيرِينَ عَنْ عَيْنِهِ ". هَذَا أَيْضًا مِنَ النَّمَطِ الْأَوَّلِ، مِمَّا يُنْكَرُ لَفْظُهُ وَإِطْلَاقُهُ غَايَةَ الْإِنْكَارِ، وَيَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ مَحْوُ هَذَا اللَّفْظِ الْقَبِيحِ، وَإِطْلَاقُهُ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَيْفَ تَتَّسِعُ مَسَامِعُ الْمُؤْمِنِ لِيَسْمَعَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَبَّسُوا عَلَى النَّاسِ بِأَيِّ اعْتِبَارٍ كَانَ؟ سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ! بَلِ الرُّسُلُ- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ- كَشَفُوا عَنِ النَّاسِ التَّلْبِيسَ الَّذِي لَبَّسُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلَبَّسَهُ عَلَيْهِمْ طَوَاغِيتُهُمْ، فَجَاءُوا بِالْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ وَشَيَاطِينُهُمْ. وَكَانَ النَّاسُ فِي لَبْسٍ عَظِيمٍ *** فَجَاءُوا بِالْبَيَــانِ فَأَظْهَرُوهُ وَكَانَ النَّاسُ فِي جَهْلٍ عَظِيمٍ *** فَجَاءُوا بِالْيَقِينِ فَأَذْهَبُوهُ وَكَانَ النَّاسُ فِي كُفْرٍ عَظِيمٍ *** فَجَاءُوا بِالرَّشَـادِ فَأَبْطَلُـوهُ وَالْمُصَنِّفُ مِنْ أَثْبَتِ النَّاسِ قَدَمًا فِي مَقَامِ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ وَتَعْظِيمِهِمْ، وَتَعْظِيمِ مَا جَاءُوا بِهِ، وَلَكِنْ لُبِّسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مَا لُبِّسَ عَلَى غَيْرِهِ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَنَا وَلَهُ، وَيَجْمَعُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ أَهْلَ التَّمْكِينِ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْأَئِمَّةُ بَعْدَهُمْ، وَجَعَلَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ مِنَ التَّلْبِيسِ لَهُمْ، ثُمَّ فَسَّرُوهَا بِأَنَّهَا تَلْبِيسُ تَرَحُّمٍ، وَتَوْسِيعٍ عَلَى الْعَالَمِ، وَمَقْصُودُهُ: أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَهُمْ بِتَعَاطِي الْأَسْبَابِ رَحْمَةً لَهُمْ، وَتَوْسِيعًا عَلَيْهِمْ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهَا لَا أَثَرَ لَهَا فِي خَلْقٍ وَلَا رِزْقٍ، وَلَا نَفْعٍ وَلَا ضُرٍّ، وَلَا عَطَاءٍ وَلَا مَنْعٍ، بَلِ اللَّهُ وَحْدَهُ هُوَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ، الضَّارُّ النَّافِعُ، الْمُعْطِي الْمَانِعُ، لَكِنْ لَمَّا عَلِمُوا عَجْزَ النَّاسِ عَنْ إِدْرَاكِ ذَلِكَ وَالتَّحَقُّقِ بِهِ؛ لَبَّسُوا عَلَيْهِمْ، وَسَتَرُوهُمْ بِالْأَسْبَابِ، رَحْمَةً بِهِمْ وَتَوْسِيعًا عَلَيْهِمْ. فَهَذِهِ الدَّرَجَةُ تَتَضَمَّنُ الرُّجُوعَ إِلَى الْأَسْبَابِ رَحْمَةً وَتَوْسِيعًا، مَعَ الِانْقِطَاعِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا، وَالْوُقُوفِ مَعَهَا تَجْرِيدًا وَتَوْحِيدًا. قَوْلُهُ " لَا لِأَنْفُسِهِمْ " يَعْنِي: أَنَّ أَمْرَهُمْ بِالْأَسْبَابِ إِحْسَانًا إِلَيْهِمْ، وَتَوْسِيعًا عَلَيْهِمْ، لَا لِحَظِّ الْآمِرِ، وَجَرِّ النَّفْعِ إِلَى نَفْسِهِ، بَلْ لِقَصْدِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ، وَحُصُولِ النَّفْعِ لَهُمْ، وَهَذَا قَرِيبٌ، مَعَ أَنَّ فِيهِ مَا فِيهِ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ، فَإِنَّ مَنْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِمَصْلَحَةٍ وَقَصَدَ نَفْعَهُ: فَبِنَفْسِهِ يَبْدَأُ، وَلَهَا يَنْفَعُ أَوْلًا، وَمَصْلَحَتُهَا لَابُدَّ أَنْ تَكُونَ قَدْ حَصَلَتْ قَبْلَ مَصْلَحَةِ الْمَأْمُورِ، وَالْإِحْسَانُ إِلَى نَفْسِهِ قُصِدَ بِإِحْسَانِهِ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ عَبْدٌ فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ، وَاللَّهُ وَحْدَهُ هُوَ الْغَنِيُّ بِذَاتِهِ، الَّذِي يُحْسِنُ إِلَى خَلْقِهِ لَا لِأَجْلِ مُعَاوَضَةٍ مِنْهُمْ، وَأَمَّا الْمَخْلُوقُ: فَإِنَّهُ يُرِيدُ الْعِوَضَ لَكِنِ الْأَعْوَاضُ تَتَفَاوَتُ، وَمَنْ يُطْلَبُ مِنْهُ الْعِوَضُ يَخْتَلِفُ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ قَوْلَهُ " لَا لِأَنْفُسِهِمْ " لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَفِي أَثَرٍ إِلَهِيٍّ " ابْنَ آدَمَ، كُلٌّ يُرِيدُكَ لِنَفْسِهِ، وَأَنَا أُرِيدُكَ لَكَ ". قَوْلُهُ: " ثُمَّ هِيَ لِلْأَئِمَّةِ الرَّبَّانِيِّينَ، الصَّادِرِينِ عَنْ وَادِي الْجَمْعِ "، يَعْنِي: الَّذِينَ فَنُوا فِي الْجَمْعِ، ثُمَّ حَصَلُوا فِي الْبَقَاءِ بَعْدَ الْفَنَاءِ، فَذَلِكَ صُدُورُهُمْ عَنْ وَادِي الْجَمْعِ. قَوْلُهُ: " الْمُشِيرِينَ عَنْ عَيْنِهِ "، يَعْنِي: الَّذِينَ إِذَا أَشَارُوا أَشَارُوا عَنْ عَيْنٍ لَا عَنْ عِلْمٍ، فَإِنَّ الْإِشَارَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَصْدَرِهَا، فَإِشَارَةٌ عَنْ عِلْمٍ وَإِشَارَةٌ عَنْ كَشْفٍ، وَإِشَارَةٌ عَنْ شُهُودٍ، وَإِشَارَةٌ عَنْ عَيْنٍ.
قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ هَذَا الْبَابَ مَبْنَاهُ عَلَى مَحْوِ الْأَسْبَابِ، وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا وَالْوُقُوفِ مَعَهَا، وَلِهَذَا سَمَّى الْمُصَنِّفُ نَصْبَهَا " تَلْبِيسًا ". وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الدِّينَ هُوَ إِثْبَاتُ الْأَسْبَابِ، وَالْوُقُوفُ مَعَهَا، وَالنَّظَرُ إِلَيْهَا، وَالِالْتِفَاتُ إِلَيْهَا، وَإِنَّهُ لَا دِينَ إِلَّا بِذَلِكَ، كَمَا لَا حَقِيقَةَ إِلَّا بِهِ، فَالْحَقِيقَةُ وَالشَّرِيعَةُ: مَبْنَاهُمَا عَلَى إِثْبَاتِهَا، لَا عَلَى مَحْوِهَا، وَلَا نُنْكِرُ الْوُقُوفَ مَعَهَا، فَإِنَّ الْوُقُوفَ مَعَهَا فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، لَا يَتِمُّ إِسْلَامُهُ وَإِيمَانُهُ إِلَّا بِذَلِكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَمْرَنَا بِالْوُقُوفِ مَعَهَا، بِمَعْنَى أَنَّا نُثْبِتُ الْحُكْمَ إِذَا وُجِدَتْ، وَنَنْفِيهِ إِذَا عُدِمَتْ، وَنَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى حُكْمِهِ الْكَوْنِيِّ، فَوُقُوفُنَا مَعَهَا- بِهَذَا الِاعْتِبَارِ- هُوَ مُقْتَضَى الْحَقِيقَةِ وَالشَّرِيعَةِ، وَهَلْ يُمَكِّنُ حَيَوَانًا أَنْ يَعِيشَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا إِلَّا بِوُقُوفِهِ مَعَ الْأَسْبَابِ؟ فَيَنْتَجِعَ مَسَاقِطَ غَيْثِهَا وَمَوَاقِعَ قَطْرِهَا، وَيَرْعَى فِي خَصِبِهَا دُونَ جَدِبِهَا، وَيُسَالِمَهَا وَلَا يَحَارُ بِهَا، فَكَيْفَ وَتَنَفُّسُهُ فِي الْهَوَاءِ بِهَا، وَتَحَرُّكُهُ بِهَا، وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ بِهَا، وَغِذَاؤُهُ بِهَا، وَدَوَاؤُهُ بِهَا، وَهُدَاهُ بِهَا، وَسَعَادَتُهُ وَفَلَاحُهُ بِهَا؟ وَضَلَالُهُ وَشَقَاؤُهُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهَا وَإِلْغَائِهَا، فَأَسْعَدُ النَّاسِ فِي الدَّارَيْنِ: أُقْوَمُهُمْ بِالْأَسْبَابِ الْمُوصِلَةِ إِلَى مَصَالِحِهِمَا، وَأَشْقَاهُمْ فِي الدَّارَيْنِ: أَشُدُّهُمْ تَعْطِيلًا لِأَسْبَابِهِمَا، فَالْأَسْبَابُ مَحَلُّ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالنَّجَاحِ وَالْخُسْرَانِ. وَبِالْأَسْبَابِ عُرِفَ اللَّهُ، وَبِهَا عُبِدَ اللَّهُ، وَبِهَا أُطِيعَ اللَّهُ، وَبِهَا تَقَرَّبَ إِلَيْهِ الْمُتَقَرِّبُونَ، وَبِهَا نَالَ أَوْلِيَاؤُهُ رِضَاهُ وَجِوَارَهُ فِي جَنَّتِهِ، وَبِهَا نُصِرَ حِزْبُهُ وَدِينُهُ، وَأَقَامُوا دَعْوَتَهُ، وَبِهَا أَرْسَلَ رُسُلَهُ وَشَرَعَ شَرَائِعَهُ، وَبِهَا انْقَسَمَ النَّاسُ إِلَى سَعِيدٍ وَشَقِيٍّ، وَمُهْتَدٍ وَغَوِيٍّ، فَالْوُقُوفُ مَعَهَا وَالِالْتِفَاتُ إِلَيْهَا وَالنَّظَرُ إِلَيْهَا: هُوَ الْوَاجِبُ شَرْعًا، كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ قَدَرًا، وَلَا تَكُنْ مِمَّنْ غَلُظَ حِجَابُهُ، وَكَثُفَ طَبْعُهُ فَيَقُولُ: لَا نَقِفُ مَعَهَا وُقُوفَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا مُسْتَقِلَّةٌ بِالْإِحْدَاثِ وَالتَّأْثِيرِ، وَأَنَّهَا أَرْبَابٌ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنْ وَجَدْتَ أَحَدًا يَزْعُمُ ذَلِكَ، وَيَظُنُّ أَنَّهَا أَرْبَابٌ، وَآلِهَةٌ مَعَ اللَّهِ مُسْتَقِلَّةٌ بِالْإِيجَادِ، أَوْ أَنَّهَا عَوْنٌ لِلَّهِ يَحْتَاجُ فِي فِعْلِهِ إِلَيْهَا، أَوْ أَنَّهَا شُرَكَاءُ لَهُ: فَشَأْنُكَ بِهِ، فَمَزِّقْ أَدِيمَهُ، وَتَقَرَّبْ إِلَى اللَّهِ بِعَدَاوَتِهِ مَا اسْتَطَعْتَ، وَإِلَّا فَمَا هَذَا النَّفْيُ لِمَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ؟ وَالْإِلْغَاءُ لِمَا اعْتَبَرَهُ؟ وَالْإِهْدَارُ لِمَا حَقَّقَهُ؟ وَالْحَطُّ وَالْوَضْعُ لِمَا نَصَبَهُ؟ وَالْمَحْوُ لِمَا كَتَبَهُ؟ وَالْعَزْلُ لِمَا وَلَّاهُ؟ فَإِنْ زَعَمَتْ أَنَّكَ تَعْزِلُهَا عَنْ رُتْبَةِ الْإِلَهِيَّةِ فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَنْ وَلَّاهَا هَذِهِ الرُّتْبَةَ حَتَّى تَجْعَلَ سَعْيَكَ فِي عَزْلِهَا عَنْهَا؟ وَيَالَلَّهِ مَا أَجْهَلَ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالتَّصَوُّفِ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ إِلَّا بِإِلْغَائِهَا وَمَحْوِهَا، وَإِهْدَارِهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ قُوًى وَلَا طَبَائِعَ، وَلَا غَرَائِزَ لَهَا تَأْثِيرُ مُوجِبَةٍ مَا، وَلَا فِي النَّارِ حَرَارَةً وَلَا إِحْرَاقًا، وَلَا فِي الدَّوَاءِ قُوَّةً مُذْهِبَةً لِلدَّاءِ، وَلَا فِي الْخُبْزِ قُوَّةً مُشْبِعَةً، وَلَا فِي الْمَاءِ قُوَّةً مُرَوِّيَةً، وَلَا فِي الْعَيْنِ قُوَّةً بَاصِرَةً، وَلَا فِي الْأَنْفِ قُوَّةً شَامَّةً، وَلَا فِي السُّمِّ قُوَّةً قَاتِلَةً، وَلَا فِي الْحَدِيدِ قُوَّةً قَاطِعَةً؟ وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا بِشَيْءٍ، وَلَا فَعَلَ شَيْئًا لِأَجْلِ شَيْءٍ. فَهَذَا غَايَةُ تَوْحِيدِهِمُ الَّذِي يَحُومُونَ حَوْلَهُ، وَيُبَالِغُونَ فِي تَقْرِيرِهِ. فَلَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ أَضْحَكُوا عَلَيْهِمُ الْعُقَلَاءَ، وَأَشْمَتُوا بِهِمُ الْأَعْدَاءِ، وَنَهَجُوا لِأَعْدَاءِ الرُّسُلِ طَرِيقَ إِسَاءَةِ الظَّنِّ بِهِمْ، وَجَنَوْا عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ أَعْظَمَ جِنَايَةٍ، وَقَالُوا: نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، الْمُوَكَّلُونَ بِكَسْرِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ وَأَعْدَاءِ الرُّسُلِ، وَلَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ كَسَرُوا الدِّينَ وَسَلَّطُوا عَلَيْهِ الْمُبْطِلِينَ، وَقَدْ قِيلَ: إِيَّاكَ وَمُصَاحَبَةَ الْجَاهِلِ، فَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَنْفَعَكَ فَيَضُرُّكَ. فَقِفْ مَعَ الْأَسْبَابِ حَيْثُ أُمِرْتَ بِالْوُقُوفِ مَعَهَا، وَفَارِقْهَا حَيْثُ أُمِرْتَ بِمُفَارَقَتِهَا، كَمَا فَارَقَهَا الْخَلِيلُ وَهُوَ فِي تِلْكَ السَّفْرَةِ مِنَ الْمَنْجَنِيقِ، حَيْثُ عَرَضَ لَهُ جِبْرِيلُ أَقْوَى الْأَسْبَابِ، فَقَالَ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ فَقَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا. وَدُرْ مَعَهَا حَيْثُ دَارَتْ، نَاظِرًا إِلَى مَنْ أَزِمَّتُهَا بِيَدَيْهِ، وَالْتَفَتَ إِلَيْهَا الْتِفَاتَ الْعَبْدِ الْمَأْمُورِ إِلَى تَنْفِيذِ مَا أُمِرَ بِهِ، وَالتَّحْدِيقِ نَحْوَهُ، وَارْعَهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، وَلَا تَغِبْ عَنْهَا وَلَا تَفْنَ عَنْهَا، بَلِ انْظُرْ إِلَيْهَا وَهِيَ فِي رُتْبَتِهَا الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ إِيَّاهَا، وَاعْلَمْ أَنَّ غَيْبَتَكَ بِمُسَبِّبِهَا عَنْهَا نَقْصٌ فِي عُبُودِيَّتِكَ، بَلِ الْكَمَالُ: أَنَّ تَشْهَدَ الْمَعْبُودَ، وَتَشْهَدَ قِيَامَكَ بِعُبُودِيَّتِهِ، وَتَشْهَدَ أَنَّ قِيَامَكَ بِهِ لَا بِكَ، وَمِنْهُ لَا مِنْكَ، وَبِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ لَا بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ، وَمَتَى خَرَجْتَ عَنْ ذَلِكَ وَقَعْتَ فِي انْحِرَافَيْنِ، لَابُدَّ لَكَ مِنْ أَحَدِهِمَا: إِمَّا أَنْ تَغِيبَ بِهَا عَنِ الْمَقْصُودِ لِذَاتِهِ، لِضَعْفِ نَظَرِكَ وَغَفْلَتِكَ، وَقُصُورِ عِلْمِكَ وَمَعْرِفَتِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَغِيبَ بِالْمَقْصُودِ عَنْهَا، بِحَيْثُ لَا تَلْتَفِتُ إِلَيْهَا. وَالْكَمَالُ: أَنْ يُسَلِّمَكَ اللَّهُ مِنَ الِانْحِرَافَيْنِ، فَتَبْقَى عَبْدًا مُلَاحِظًا لِلْعُبُودِيَّةِ، نَاظِرًا إِلَى الْمَعْبُودِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
|